عندما نتحدث عن التغيير في رمضان فينبغي أن يكون أعمق من التغير السلوكي الظاهري الذي يقوم على اكتساب عادات جديدة من خلال الممارسة المتكررة.
حينما ندرك حقيقة عمق النفس الإنسانية وأن التغيير الحقيقي والراسخ لا يأتي إلا بعد تغيّر نابع من النفس التي هي محل التكليف والاختيار، والمسئولة عن تصرفات الإنسان من أقوال وأفعال، فالإنسان يعلو على جسده بنفسه ثم قلبه، ويعلو عليهما بعقله، ويعلو على عقله بروحه.. فهي في تدافع دائم، حيث إن منابع الخير والشر لدى الإنسان موجودة في زوايا نفسه، فسلوكه الظاهر وأعماله المختلفة ثمرة ونتيجة لحركات نفسه واندفاعاتها واتجاهاتها.
ليس للإنسان سلوك من غير دافع، ويتدرج دافع الإنسان لفعل الشيء ابتداءً من توجه النفس؛ وهي الحركة النفسية نحو العمل بتوجه غير فاعل، وانتهاءً بالعزم؛ وهو اتجاه نفسي جازم ذو نسبة عالية في القدرة على التصدي للعقبات والصعوبات.
والإرادة هي مصدر الطاقة التي يكون بها الدافع، والإرادة التي تحقق دافع الخير منبعها الأساسي هو معرفة الله، لأن معرفة الله تحقق محبته، ومحبته تحقق الإرادة. فالعقل والإرادة يحتلان مقعد القيادة من الإنسان؛ فهما يصدران الأوامر ويدفعان ويوجهان السلوك، وتتعدى سيطرتهما السلوك الظاهري إلى الانفعالات، ويبطلانها عند الضرورة، وبإخضاع الانفعالات للعقل يصبح الوئام والسعادة في متناول الإنسان.
وإذا أصبحت العادة والسلوك ثابتة في الإنسان أصبحت خلقاً "إن هذا إلا خلق الأولين".
إذاً جوهر التغيير الرمضاني هو تغيير ما بالنفس، فكلما كانت قضية التغيير أكبر كان منطلقه أكبر وأكثر جذرية، فماهي مؤهلات شهر رمضان ليكون نقطة التغيير الكبرى للنفس طوال العام.
إذا كانت النفس هي نواة التغير الجوهرية في الإنسان فإن التقوى هي باكورة نتائج التغير وثمراته، فآية فرض الصيام ختمت بقوله تعالى: "لعلكم تتقون" فجعل الصوم اختباراً روحياً وتجربة خلقية، وأراد الشارع منه أن يكون وسيلتنا، إلى نيل صفة المتقين، وأداتنا في اكتساب ملكة التقوى.
فالتقوى هي الهدف الحقيقي، الذي إن أصبناه جاءت من ورائه كل الثمرات مكرهة راغمة، وإن أخطأناه فقد أضعنا عملنا كله سدى "من كان يريد حرث الأخرة نزدله في حرثه ومن كان يريد الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب".
إننا لن تحيط بكنه التقوى، ولن نقدرها حق قدرها، إلا إذا عرفنا طبقات الكائنات ومراتب الوجود، فالوجود ثلاث مراتب:
فإذا أسلمت له تلك الجنود مقاليدها، فصار قائداً مطاعاً في جنده، سيداً مهيباً في مملكته الصغيرة، فقد نال صفة التقوى وأصبح جديراً بالاستخلاف في الأرض والتمكين له فيها، وأكرم بعبودية هي عين السيادة.
تلك هي التقوى، التي أراد الله أن تكون ثمرة صيامنا، وهي في الحقيقية هدف مشترك بين العبادات والطاعات جميعاً.
أفضلية كل شيء دافع لبذل المزيد من الجهد في تحصيل منفعته، فحتى في شأن الدنيا إذا وُجِدت فرصة فيها مزية أعلى من مثيلاتها فهي أجدر عند العقلاء بالاجتهاد لنيلها، فزيادة المردود مقابل الجهد المبذول في فترة زمنية لا تتوفر في غيرها، هو بلا شك أقوى دافع للنفس، سواء من جهة لهفة الاغتنام قبله أو من تذكر شعور الندم بعد الفوات.
اجتماع الطاعات ذات الفضل المضاعف دافع آخر للنفس، تماماً كمن وجد غنائمه كلها في موضع واحد وفي متناول يده، وقد أشار ابن رجب إلى شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه؛ فالصائم في ليله ونهاره في عبادة، ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره، فهو في نهاره صائم صابر، وفي ليله طاعم شاكر.. وهذه الخصال كلها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصيام والقيام والصدقة وطيب الكلام.
ثم يقول: ومنها أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها، وخصوصاً إن ضُم إلى ذلك قيام الليل.
فتناوُب الجهد الإنساني بين الطاعات المتتابعة واستقرار آثارها في القلب يحولها إلى عوائد راسخة ومن ثم إلى خُلُق كما ذكرنا، وعليه فإن السلوك الأخلاقي عبارة عن طاعة مكتسبة، أي أنه عبارة عن تمرين للنفس، والعبادات هي الوسيلة لبلوغ ذلك.
فأدب النفس يتحقق ب"الرياضة"، وهي عملية مستمرة من إخضاع الذات لممارسات متكررة تعمل على تشكيل الروح وتكوينها، وتبدأ العملية بخطى متثاقلة لا تلبت أن تتحول تدريجياً إلى نوع من السلوك المعتاد إلى أن تصبح طبعاً مستقراً في النهاية، وكل تصرف يعمل على تشكيل الروح إنما ينبعث من القلب، ولكن تأثيره يمتد إلى الجسد وأعضائه وأطرافه.
فالجسد يؤمر بأن يتحرك أو لا، وبأن يتصرف وفقاً للأوامر والتوجيهات الواعية النابعة من القلب، وحينها يتناغم الجسد مع أوامر القوة العقلية ويصبح منصاعاً بشكل تلقائي لطرق القلب.
العبادات الرمضانية أعطت الشهر طابعاً مميزاً بخاصية الشعائر -المعلنة "الظاهرة للحواس" كما عرفها الراغب الأصفهاني- والجماعية، وهاتان السمتان لهما أثرهما النفسي عند المسلم، فاستشعار المساواة والتماثل مع الآخرين له أثره في الخضوع والروحانية الوجدانية، ويعطي مؤازرة للنفوس الضعيفة، وطاقة دافعة لاستشعار المقاصد الشرعية للشعائر الجامعة.
فالطابع الاقتراني الشامل لعبادة الصوم المشترك يجعل من الصائمين صحبة في المجاهدة، ورفقة في مكافحة الشدائد، فترتفع نفوس الضعفاء لتسامي مراتب الصالحين الأولياء.
كما استجلى علي عزت بيجوفيتش حكمة الجماعية في الصيام، حيث أن المسلمين يرون في الصوم مظهراً لروح الجماعة، ولذلك فهم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب..
إن الصيام وحدة تجمع بين التنسك والسعادة بل حتى المتعة في حالات معينة، إنه أكثر الوسائل التعليمية -طبيعية وقوة- التي وضعت موضع الممارسة الإنسانية إلى يومنا هذا.
أما المظهر الشعائري في العبادة فيتضح من كون الإنسان لا يحب "محبة كاملة" تفضي إلى "الطاعة الكاملة"، إلا إذا شهد في المحبوب من صفات الحسن والكمال والكفاءة ما يلهب عنده مشاعر الإعجاب والحب والتقدير، ويقنعه بوجوب الانقياد الكامل لهذا المحبوب، وهو لا يستمر على المحبة ولا يحرص على هذه الطاعة إلا إذا ذاق من ثمراتها ولمس من نتائجها ما فيه سعادته وقوام حياته.
فأما شهود صفات الحسن والكمال والاقتناع بالانقياد فهذا يحصل بالمظهر الشعائري، الذي يتمثل في شعائر وممارسات ترمز إلى أشكال الحب والطاعة التي يعبد بها الإنسان الخالق.
وأما الاستمرار على المحبة والطاعة فتحصل بالمظهر الاجتماعي [الجماعي] الذي يثمر "اليقين" في النفوس و"الاستقامة" في السلوك، ويظهر أثر المحبة والطاعة الكاملة في سعادة الإنسان وتوفير قوام حياته.
أخبر تعالى أن هذا الشهر أيام معدودات، أي قليلة في غاية السهولة كما قال ابن سعدي، وهذا هو سر انبعاث النفوس للاجتهاد؛ فالمدة المحدودة التي يُرى ما بعدها قريباً - مع وفرة المغنم - تغري بتجييش الجهد واستجماع الصبر واهتبال الفرصة العابرة:
إذا اشتكت من كلال السير أوعدها روح القدوم فتحيا عند ميعاد
من أبلغ الأسرار الدفينة التي قد تخفى على الكثيرين أن هذا الشهر الكريم يعيد ضبط موازين الحياة، فالله عز وجل أخبر أن الإنسان يطغى "أن رآه استغنى"، وأنه جحود كنود كفور، وأنه نسيٌّ، وأخبرنا الله أن هذه الدنيا "لعب ولهو" لعب للأبدان ولهو للقلوب، وأنها زينة وزخرف، وحلوة خضرة، وأنها متاع..
وحذرنا الله مما يقع فيه أكثر الناس بأنهم "رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها"، وأن منهم من "يريد ثواب الدنيا" و "يريد الحياة الدنيا وزينتها" أي لا يطلب إلا منافع الحياة وزينتها؛ و "يريد العاجلة" و"يريد حرث الدنيا" بأن تكون الدنيا هي مقصوده وغاية مطلوبه، ويريد "عرض الدنيا" أي المال لأن الانتفاع به قليل اللبث، فأشبه بالشيء العارض، وتغرهم "الحياة الدنيا" وتغرهم "الأماني".
وهذا يقع للإنسان حينما ينسى ويغفل، ويضعف تأثره بمواعظ القران وعِبَر الحياة، فطول الأمد (أي طول الزمان مع استمرار الغفلة) يؤدي إلى طول الأمل، وحينها تتضخم الدنيا وتستطيل في حس الإنسان ويركن إليها ويطمئن لها، ويتغافل ثم ينسى الآخرة، ولا يكون لها حضور في بواعث نفسه وحركة جوارحه، وتصبح الدنيا وأسبابها هي الفاعل الأكبر والمحور الأساس الذي عليه مدار مساعيه..
ومظنة تعديل هذه الموازين المختلة هو شهر رمضان باعتباره ظرفاً مليئاً بقيم ومعاني الآخرة، ومن ذلك اختصاصه بالقران؛ فإن الله عرّف رمضان لنا بأنه "الذي أنزل فيه القرآن"، وجبريل اختار لمدارسة القران مع النبي صلى الله عليه وسلم كل ليله في شهر رمضان، والشيء يُعرّف بأخص ما فيه.
وفي ذات الآية وصف الله كتابه بأنه "هدى وبينات من الهدى والفرقان" فهو هادٍ من الضلالة، وبينات واضحات، بما يهدي من الحق في الأحكام، والفرقان بين الحق والباطل، فمع القراءة المكثفة خلال الشهر وبإزاء التأثير القلبي للطاعات الأخرى تعتدل تلك المعاني وتستقيم في النفس.
وأكثر ما يتلقاه القارئ المتدبر هو الحضور المكثف للآخرة، فإن نبأ البعث بعد الموت وخبر النشور والجزاء، هو أعظم خبر في القران المجيد.. كما أن كل قضايا القران العقدية، وكذا قضاياه التشريعية، سواء في العبادات أو المعاملات، كلها منوطه بالمصير الأخروي ومنضبطة إليه.
بل إن حزب "المفصّل" الذي هو خلاصة القران هو أخروي خالص؛ فهو–كما وُصِف- كتاب الآخرة.
وحينها يمتلئ قلب قارئ القرآن باليقين بالآخرة وبلقاء الله، ومن ثمّ اليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور، فهو مناط الصبر والاحتمال، وهو مناط التقوى، ومن ثم الوزن الصحيح للقيم: قيم الدنيا وقيم الآخرة، ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمناً قليلاً، وبدت الآخرة على حقيقتها لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها.
ثم إن هذا الشهر بتمايزه عما قبله وبعده بما ذكرنا، يعدُّ رحلة مصغرة للحياة يستعرض المتأمل من خلالها رحلة عمره في الدنيا، من بدايةٍ تشبه فتوة الصبا وريعان الشباب، ثم الوسط المُسامي لمرحلة الأشُدّ التي يتمتع فيها بزهرة الدنيا التي تحصّلت له، ويثقل ويفتر عن الآخرة مشرئِبّاً للدنيا لاشتداد عوده، ثم العشر الأخيرة التي تذكّر بفجأة غروب الحياة ، واشتعال شيب الضعف والوهن فيه "مثل اشتعال النار في جزل الغضا"، ثم يتذكر بسرعة انقضاء الشهر سرعة تفارط عقد الأيام والسنين، بل إن عَوْد الشهر كل عام هو محطة يتذكر بها سقوط عام من خيط سنوات عمره .. وكفى بهذه موقظات للنفس.
إذا اختزنت النفس كل تلك المعاني فلا بد أن يقوم بها شواهد المعاينة لله بالقلب كما بينها ابن القيم: فأول شواهد السائر إلى الله والدار الآخرة: أن يقوم به شاهد من الدنيا وحقارتها، وقلة وفائها، وكثرة جفائها، فإذا قام بالعبد هذا الشاهد منها ترحل قلبه عنها، وسافر في طلب الدار الآخرة وحينئذ يقوم بقلبه شاهد من الآخرة ودومها، وأنها هي الحيوان حقا.
ثم على النحو ذاته: شاهد من النار، وشاهد من الجنة، وشاهد يوم المزيد..، فبهذه الشواهد يسير القلب إلى ربه أسرع من سير الرياح في مهابِّها، فلا يلتفت في طريقه يميناً ولا شمالاً.
وفي العموم إذا كنا لا نزعم أن ما عرضناه هو بمثابة الأضلاع المتكاملة لمؤهلات التغيير الرمضاني؛ فإنا نحسب أنها تكفي لإثبات أن جوهر التغيير الرمضاني هو تغيير ما بالنفس، الذي يعود على الإنسان بنقلة حقيقية بعيدة المدى في طريق سيره إلى الله.