إن المعضلات التي قلّ من يتجاوزها خروج الأكاديمي من مؤسسته الأكاديمية ليمارس دوراً اجتماعياً، حيث يرتهن لهذه البيئات التي تخنق داخلها دوره وتستنزف طاقته. نموذج المثقف الذي تتابع على تعبئته الكثير من علماء الاجتماع بدءاً من جوليان بندا ومروراً بغرامشي وانتهاء بإداورد سعيد؛ هو الدور الذي ينبغي أن يتقمصه عالم الاجتماع في دائرة المجتمع منعتقاً من جدران الجامعة وقيود التخصص.
وعالم الاجتماع هو الأكثر توفراً على أهلية المثقف الذي يعرف بأنه من يتخذ موقفاً نقدياً من القضايا العامة بهدف الدفاع عن مبادئ ومثل عليا.
فالثقافة بحسب الغرض منها وفق مفهومها الأصلي هي عامل للتغيير وليست عاملاً للحفاظ على الوضع القائم كما أوضح باومان؛ فكان المطلوب منها أن تكون وسيلة لقيادة التطور الاجتماعي نحو وضع إنساني عالمي، فهي بهذا المفهوم فعل وليست حالة؛ فالحالة تعني الثبات، والفعل يعني الحركة الدائمة، وفعل المثقف هو التفاعل مع الثقافة؛ التي هي مجموعة الأفكار والقيم السائدة.
وما دامت الثقافة فعلاً؛ فلا بد أن يكون المثقف فاعلاً، وبذلك فهو يفقد وضعه كونه مثقفاً عندما يتوقف عن الفعل، وتسيطر عليه مجموعة من الأفكار والآراء بدرجة تفقده القدرة على أخذ موقف منها.
وفي هذا النطاق رصد البعض أربعة نماذج من علماء الاجتماع:
- المتذهن (الناقد)
- الأكاديمي
- الخبير
- عالم الاجتماع الاستعراضي في وسائل الإعلام
غير أن الثلاثة الآخرين -عدا الناقد- قد انهارت الحواجز بينهم في زمن صناعة الثقافة، وغدت الفوارق هلامية، ولذا فسيكون نقاشنا حول اتجاهين اثنين: أولاهما: الأكاديمي/ الخبير/ الاستعراضي، باعتبار اتصال دورهم وتشابكه. وثانيهما: عالم الاجتماع الناقد.
فالعالم (الأكاديمي) يتميز بالمسافة التي يأخذها بالنسبة للقطاعات العمومية العريضة، وبالمرجعية إلى المجال الأكاديمي الذي يتسلح بقواعده وبمعاييره الخاصة به والموجهة نحو البحث عن الفهم والعرفان بأدوات علمية رصينة. فهذا العالم متمأسس بقوة (جامعات، مراكز أبحاث..) ولهذا السبب فإن على عالم الاجتماع أن يحصل على اعتراف مؤسساتي لتجنب مخاطر التهميش.
غير أن الواقع يشير إلى أزمات عميقة تصنعها المؤسسة الأكاديمية بشكلها الحالي تجاه رسالة المثقف «عالم الاجتماع»، إذا بقي وفياً لنموذجها:
منها انحباسه داخل الاقتصاد المؤسسي الذي يربطه بطريقة فعالة للخضوع للشروط التنظيمية البيروقراطية التي تستنزف طاقته البحثية وأفضل سنواته وإمكاناته المعرفية للترقي الجامعي وتأمين معاشه.
ويشخص المسيري أزمة الأكاديمي في هذا الإطار فيقول: إن كلمة «أكاديمي»؛ فقدت معناها، وأصبحت تشير إلى أي شخص عديم الخيال، يلحق ببحثه قائمة طويلة بالمراجع، ويشرح أطروحته بطريقة مملة، ولا يبدي أي رأي، ويحدث أصواتاً معرفية.. ولا تتسم دراسته بأي شيء سوى أنها «صالحة للنشر» لأن صاحبها اتبع مجموعة من الأعراف والآليات البحثية.. والهدف عادة من مثل هذه الكتابات هو زيادة عدد الدراسات التي تضمها السيرة العلمية للأكاديمي صاحب الدراسة، فيتم ترقيته.. فقد تقوم الدنيا ثم تقعد، وقد يقتل الأبرياء وينتصر الظلم وينتشر الظلام، وصاحب «البحث» لايزال يكتب ويوثق ويعنعن وينشر، وتدور المطابع وتسيل الأحبار ويخرج المزيد من الكتب، ثم يذهب صاحبنا إلى المؤتمرات التي تقرأ فيها أبحاث أكاديمية لا تبحث عن شيء إلا ليزداد لمعاناً وتألقاً.. إنه يتحرك في عالم خال من أي هموم إنسانية حقيقية، عالم خال من نبض الحياة. رمادية كالحة هي هذه المعرفة الأكاديمية، وذهبية خضراء هي شجرة المعرفة الحية المورقة.
ويلخص كريس هيدجز أزمة الأكاديمي فيقول:
إن الأكاديميين هم المسؤولون عن عللنا الاجتماعية، فكلما حاولنا فحص أسباب مخاطرنا الجمعية درسناها ونحن: مقطوعوا الصلة بالعالم، متخصصون في مجالات معرفية فرعية متناهية الصغر، فاقدون للقدرة على التفكير النقدي، مهووسون بالتطور الوظيفي، وموالون لشبكاتنا الاجتماعية من الزملاء التي تبدو إلى القبائل أقرب.
وبممارسة الأكاديمي دور الخبير يتولى وظيفة المستشار الذي يصنع خبرات المستقبل من خلال مأسسة البحث وتفعيل وظائف العلوم الاجتماعية خارج الجامعة، كل ذلك يجعل علم الاجتماع متكيفاً مع هذه المتطلبات التسلسلية. غير أن مشكلته أنه يتورط في ممارسة دور السفسطائي المعاصر الذي يُدفع ليفكر بطريقة معينة، فهو ليس مهتماً بما يتحدث عنه، وإنما يتصرف ضمن إطار ميكانيكي بحت، فهو يحوّل اعتبارات المبادئ والقيم إلى عناصر معرفية جامدة، لذا فبعض النقاد لا يتوقع من هذا النموذج مقترحاً قوياً أو أصيلاً.
وعدا دور الأكاديمي والخبير يرتدي عالم الاجتماع رداء الإعلامي الاستعراضي من خلال حضوره في وسائط الإعلام الجماهيري، ففاعليته نتاج للصناعة الثقافية، فهو يبحث عن جمهور عريض وعن سلطة رمزية كبرى، وهو يشكل جزءاً من الحقول العامة الخاضعة لسيطرة الصناعة الثقافية التي تحدد بُنى أعماله وأقواله.
وتداخل أدوار الأكاديمي والخبير والاستعراضي الإعلامي يستدعي معه مفاهيم أخرى غالباً ما يؤدي تضخمها إلى إعاقة وظيفة المثقف فكريس هيدجز يعتبر مفردات «المتخصص» و «النخبوي» علامات تعرقل الفهم العام، كما تردع قليلي الخبرة عن طرح الأسئلة غير المستحبة، بل تدمر البحث القاصد للخير العام؛ فهي تقطع الحقول المعرفية والكليات والطلبة إلى قطع تخصصية صغيرة، وتفرض على الدارسين الانسحاب إلى تلك الإقطاعيات المفروضة ذاتياً وإهمال الأسئلة الأكثر إلحاحاً.
قابل النموذج السابق بتشعب تموضعاته: المنظر الكلاسيكي (الناقد) الذي يحصل على الاعتراف من خلال عمله في الحقل الاجتماعي العام، فهو يتكلم من أجل المجتمع بشكل عام، وهو بالنسبة للطبقة القائدة القائمة ناقد، وذلك لأنه يقترح آفاقا مستقبلية ممكنة وهذا يعني تجاوز الوضع القائم.
ونحن نصف دوره ليمثل «النموذج الذهني» صاحب الصورة المثالية الذي حظي بالكثير من التنظير حوله كونه الممثل الحقيقي للمثقف الاجتماعي. فهو يناضل باستمرار ضد وضعانية النظام الاجتماعي القائم الذي يحول دون التغيير وضد ما ينتجه من خطاب.
إذ يستطيع عالم الاجتماع (الناقد) المتنائي عن ظروف التقييد أو التأطير أن يشعر أنه أكثر أهمية وأكثر تأثيراً؛ حين يمارس نشاطه المهني في المؤسسات ذات الأهداف الموجهة للصالح العام؛ والتي تقوم بدور الدمج الاجتماعي الذي لا يصب مباشرة في خدمة المصالح الخاصة.
لذلك تتعلق به مسؤولية إيجاد السبيل إلى صنع علوم اجتماعية «عمومية» والمشاركة في حياة المدينة العامة من دون الانحباس في الاختيار المحدود بين مواقف شديدة النقد غير منتجة، أو وضع خبير جدير بالاحترام ولكنة بعيد كل البعد عن دور المثقف، وإنما يتخذ مواقف تتيح له مقاومة الضغوط الثقافية والاجتماعية التي تمارس عليه.
ومن مسؤولياته الفهم؛ أي كشف المخفي والمكبوت في العالَم الاجتماعي وفقاً لمقولة متداولة لباشلار «ليس ثمة من علم إلا عن المخفي»، وعالِم الاجتماع هو الأجدر بذلك، لأنه يستخدم عتاد من المفاهيم والمنهج والتقنيات التي راكمها الذين سبقوه.
إذاً وظيفته كممثل لدور المثقف: هو أن يفك عالم الرمز الذي غالباً ما تحجبه الحياة اليومية وحوادثها الآنية،
فالمثقف الاجتماعي هو من يستطيع التعالي على هذه المواقف والحوادث وينزع إلى التفكير والتساؤل فيما وراء ما يراه الآخرون وينشغلون به.