فكر

تعويم الثقافة

أ. فؤاد العمري
0
منذ ٣ أشهر
مقال - تعويم الثقافة

شهدت الدراسات الاجتماعية مؤخراً اهتماماً شديداً بقضايا الثقافة والتحول الثقافي، مع الانتقال الحاصل في النظرية الاجتماعية من تحليل البناء الاجتماعي إلى دراسة التصورات والتمثيلات الثقافية؛ فيما يسمى «بعودة الثقافة»، فإذا كانت الثقافة نهر واسع المجرى تمثل كل ما اكتسبه البشر ويتم توارثه اجتماعياً أو كل ما أنتجته الكائنات البشرية مقابل كل ما يشكل جزءاً من الطبيعة، فهل يمكن أن تؤدي سياسة الثقافة في بنائها للأنشطة الثقافية ذات المعنى إلى تغليب فروعها التي تقوض القوام المركزي لها؟!

 

سنقف هنا أمام مشكلة ما الذي يحوز على المشروعية العليا في التراتب الثقافي داخل الفضاء الاجتماعي، حيث تبرز هنا «الثقافة العالية» أو «الراقية» أو «العالمة» -ثقافة النخبة- وهي التي تُطلب بالتعلم والتدرب من خلال القراءة والحوار والممارسة، بينما يشار للثقافة الشعبية؛ إلى ما ينتقل شفوياً من الأغاني، والروايات والتاريخ، والرقص والفلكلور الشعبي، والتراث المادي، ومظاهر التقاليد والطقوس الاجتماعية المحلية وتاريخها..

 

كما تتشكل في أشكال نوعية من اللباس والأزياء، والموسيقى، ورواية القصص والأساطير والأمثال الشعبية.

 

وهي تدرس من بعض علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا باعتبارها التعبير الثقافي الرئيس عن زماننا، وعن روح الوطن وقيمه الكامنة في تكونه المرحلي، والتعبير الصادق والأصيل عن الذوق الشعبي، وأنها نافذة على الوعي العام، وهي تعطي بعداً لهوياتنا الجمعية التي تتشكل عبر انغماسنا في الشعبي، عدا كونها موجودة في كل مكان، فهي نتاج عفوي من الشعب بشكل تلقائي، ونحن نعيش حياتنا حولها ومن خلالها، وتتخلل الحديث والذاكرة الجماعية، وهي مع ذلك لا تخلو من ملامح الحيوية والإبداعية الخاصة بها، فهي تملك سمات الثقافة المتمايزة، والمؤسسة على قيم وعلى ممارسات أصيلة تكسب الوجود معنى.

 

كما أنها توظف لتكون عامل جذب سياحي، أي بمثابة طريقة للتدليل على ما يميز بلداً أو مجتمعاً محلياً عن سواه، ومهما قيل عن التمايز بين الثقافتين؛ فالثقافة الشعبية لا تبدو لا تابعة بصفة كلية ولا مستقلة تماماً، ولا مجرد مقلده أو مبتدعة، إلا أنهما يمثلان مستويين لثقافة واحدة، وبينهما نقاط التقاء وخطوط تقاطع، فإذا كانت الثقافة الراقية تتطلب الكثير من المعرفة والحساسية لتقديرها والاتصاف بها، فإن الثقافة الشعبية لا تتطلب سوى القليل من ذلك إذ هي ممارسة شعبية تلقائية.

 

وإذا حصل الاتفاق على أن الثقافة، إذا كانت تعبيراً عن التجربة المعيشية وراسخة في حياة الناس الجماعية المشتركة -سواء أكانت رفيعة أو شعبية- فينبغي دراستها من منظور سوسيولوجي، فإن هذا ليس موطن الإشكال؛ وإنما الإشكال في التنازع على رسم الصورة الذهنية مجتمعياً للإجابة على أسئلة: ما هي «ثقافتنا» التي تمثلنا تجاه ذاتنا الاجتماعية وتجاه الآخر؟!!

 

فحينما يتوسع عرض الثقافة الشعبية في الإعلام، وتستحوذ على الأنشطة العامة، ومؤسسات الثقافة، وتحظى بالدراسات والبحوث والصحافة، بل وتشارك الثقافة العليا فعالياتها الحصرية عليها كمعارض الكتاب وأمثالها، فإن هذا يعني أننا نشاهد تعويماً للثقافة العليا في بحر الشعبية، وغمراً لها يطمس معالمها ويُعفي آثارها.

 

وبسبب تغليب مفكري ما بعد الحداثة لهذا الاتجاه وعولمة ذلك؛ فقد ظهرت حالة من القلق حول تشريع دراسة ما هو شعبي، ومنتجات ثقافة وسائل الإعلام، والذي كان على حساب تفضيلها على «الثقافة العليا»، وتكريس للانقسام بين «الشعبي» و «النخبوي».

 

فإذا كانت كل الثقافات جديرة بالعناية والاهتمام؛ فذلك لا يسمح بأن نستنتج أنها معترف لها كلها بتساوي القيمة اجتماعياً، فأنصار الثقافة «العالية» يتوجسون منها بحجة أن توسيع الاهتمام بها يقصي ثقافة النخبة، وحينما تعرض على المتلقي بكثافة فإنه يفقد اهتمامه بالثقافة العالية ويفقد قدرته على التمتع بها، وتزيد مبررات التوجس من تضخيم الثقافة الشعبية، في دفعها لتكون مشكِّلة للكيفية التي تُفهم بها الثقافة القومية نفسها، كما أنها تؤول لاضطراب البناء الهرمي الثقافي، فهي ممارسات شكلية تبطل المعايير الثقافية والتدرج لها.

 

فهي الثقافة الاعتيادية للناس الاعتياديين، أي ثقافة تصنع يوماً بيوم، خلال الأنشطة العادية المتجددة يومياً، وهي موجهة إلى أولئك الذين ليس لهم اهتمام جدي بالثقافة، أي ثقافة الناس الذين يبغون الراحة وينسون العمل ويهتمون بالأوقات الممتعة في فراغهم، فهم لا يبحثون عن ثقافة استقصائية ومنيرة وتأملية، ولا استجابات جمالية مع الأدب والفنون الأصيلة.

 

إنها تدور حول الأساليب المتحركة للإحساس والذوق والرغبة التي تشكل ثقافة اللهو، وتعطي اعتباراً لسلوك الهزل والمتعة والبلاهة، كما أنها تشكل ذاكرة تاريخية قصيرة منقطعة الجذور، وهي سريعة الزوال مع كل جيل، عدا كونها ثقافة مناطقية شعوبية قد يؤدي تناولها المبالغ فيه إلى التحيزات والانقسامات الثقافية.

 

ومقابل ذلك تتسم الثقافة العليا بوعيها بذاتها، فمن خلال اكتسابها يبنى الوعي الإنساني، ومن ثم تمر بنوع من المساءلة حول منطقيتها ونفعها، على حين أن اكتساب الثقافة الشعبية يتم بطريقة غير واعيه وتتطور بطريقة لا شعورية، مما يجعلها لا تعنى بالاتساق المنطقي، ولا بالنفعية المتوخاة من ممارستها، وإذا كانت وظيفة الثقافة العليا هي تنظيم المجتمع وحل تناقضاته وصياغة شخصيته المستقلة، فإن مهمة الثقافة الشعبية تحقيق التواصل بين أبنائها، وتحقيق التجانس والتماثل قدر الإمكان.

 

ثم إن الثقافة العليا هي التي تحوز مشروعية تمثيل الهوية، فالهوية معطى يعرّف الفرد بصفة نهائية، ويطبعه بصفة تكاد لا تمحى، فالهوية الثقافية تحيل إلى مجموعة انتماء الفرد الأصيلة، حيث يكون الأصل والجذور أساس كل هوية ثقافية، كما أنها أكثر اتصالاً بالتاريخ، وأبعد تعميقاً للجذور، فهي تعكس ذاتاً حضارية واضحة المعالم، إذ هي الدرع المتلقي المقاوم للضغوطات، والمصدّ أمام الاختراق الخارجي، مقابل «الثقافة الشعبية» التي هي رمزية هلامية، لا تقاوم الاختراق ولا يضرها، بل المفارقة أنها رغم محليتها إلا أنها أكثر تشرباً للثقافات العولمية بأثر التفاعل الجماهيري معها.

 

 وبكلمة؛ حينما تذبل الثقافة العليا تضعف فاعلية الثقافة العامة في تجديد ذاتها وتمدين مجتمعها، ومن ثم تفقد الجاذبية الحضارية على المستوى الخارجي.

المزيد من المقالات