إنّ المقارنة بين الفكر الإصلاحي الإسلامي في القرنين التاسع عشر والعشرين والحركة البروتستانتية هو أمر شائع في الدراسات الغربية. إذ يُقارن العديد من الكُتاب الحركات الإصلاحية الإسلامية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مع الإصلاح البروتستانتي، وذلك من ناحية أنها تشبه الحركة التي افتتحها لوثر في القرن السادس عشر في أوروبا(1). يدّعي هؤلاء الكُتاب بأنّ الإصلاحيين المسلمين أعادوا تأويل المفاهيم الإسلامية الماقبل الحداثية من منظور بروتستانتي. فمثلًا، يُحاججُ كل من يوهان بوسو Johann Büssow وأميكي كاتمان Ammeke Kateman بأن تصور محمد عبده للدين يتبعُ «النموذج البروتستانتي»، أي يُصبحُ الدين بالأساس مسألة ضمير وإيمان داخلي، أكثر من كونه مسألة ظاهرية أو شعائرية(2).
لا أُحاول في هذا المقال أن أُبين أوجه التشابه بين الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث والإصلاح البروتستانتي. بل أتتبع مُقارنة الإصلاحيين المسلمين أنفسهم بين دعواتهم للتغيير الديني والإصلاح البروتستانتي. أي أنني أُناقش رؤية مصلحي القرن التاسع عشر والعشرين لحركاتهم باعتبارها شبيهة للحركات البروتستانتية. كما أُحاججُ أنّ هذه الرؤية للذات تدل على تبني هؤلاء الإصلاحيين لتصور خطي للتاريخ، تُعتبرُ فيه البروتستانتية شرطًا لازمًا للحداثة والتقدم.
تشكلت رؤية الإصلاحيين المسلمين للبروتستانتية باعتبارها شرطا لازما للحداثة والتقدم من خلال نظرهم في «تخلف المسلمين» و«تقدم الغرب». فبعد الغزو الفرنسي لمصر سنة 1798م؛ وعودة البعثات الأوروبية الممولة من طرف الدول العربية والمسلمة، بدأ بعض المفكرين المسلمين مثل المصري رفاعة الطهطاوي بمناقشة الطرق التي تؤهل المسلمين لتجاوز حالة التخلف والوصول إلى مستوى التقدم المادي والعلمي والعسكري في أوروبا.
ربط العديد من الإصلاحيين تخلف المسلمين بالتقليد. كما حاججوا بأن الضعف الإسلامي أمام الغرب هو نتيجة للركود الذي يُحدِثُهُ التقليد وغياب الاجتهاد، وبهذا أصبح الاجتهاد كلمة مفتاحية للإصلاحيين المسلمين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وكما سأُوضح أدناه، تصوير الاجتهاد باعتباره نقيضًا للتقليد جعل العديد من الإصلاحيين يقارنون حركاتهم بالإصلاح البروتستانتي.
فقد عزا الإصلاحي المسلم البارز جمال الدين الأفغاني بشكل صريح سبب الحداثة الأوروبية إلى الإصلاح البروتستانتي. كما أكد على أنّ الإصلاح البروتستانتي هو سر الحضارة الأوروبية الحديثة، ورأى في حركة لوثر السبب الرئيس للتطور في المجتمعات الغربية، فيقول: «إننا لو تأملنا في سبب انقلاب حالة عالم أوروبا من الهمجية إلى المدنية؛ نراه لا يتعدى الحركة الدينية التي قام بها لوثر وتمت على يده»(3). فبالنسبة للأفغاني، تقوم حركة لوثر على إعمال العقل البشري في المصادر الدينية، وهو الأمر الذي أنقذ المجتمع الأوروبي المسيحي من الانحطاط الذي سببه التقليد الأعمى للسلطة الدينية الكاثوليكية. في كتابه «الرد على الدهريين»، يقتبس ويتفق جمال الدين الأفغاني مع أحد المؤرخين الأوروبيين الذي يقول: «إنّ من أشد الأسباب أثرًا في سَوق أوروبا إلى تمدنها ظهور طائفة في تلك البلاد قالت إنّ لنا حقا في البحث عن أصول عقائدنا، وطلب البرهان عليها... فلما أخذت تلك الطائفة (البروتستانتية) قوتها، وانتشرت أفكارها، نصلت عقول الأوروبيين من علة الغباوة والبلادة، ثم تحركت في مداراتها الفكرية، وترددت في المجالات العلمية، وكدحت لاستحصال أسباب المدنية»(4).
إن تأويل الأفغاني لتأثير لوثر على التاريخ الأوروبي يبيّن كيف أنّ الإصلاح البروتستانتي أصبح مثالا للإصلاحيين المسلمين. حتى إن جمال الدين الأفغاني كان يُردد عبارة أنّ «الإسلام بحاجة إلى لوثر»(5) كما ينقل عنه رفيقه عبد القادر المغربي. بل إنّ المغربي يقول بأنّ «الأفغاني قد يكون رأى في نفسه لوثر»(6).
يُمكنُ أيضا ملاحظة هذه المقابلة بين الفكر الإصلاحي الإسلامي في القرن العشرين والبروتستانتية في كتابات محمد عبده. يُحاججُ عبده الذي كان تلميذًا للأفغاني ومُصلحًا بارزًا بدوره، أنّ الإصلاح البروتستانتي دعى إلى: «الإصلاح والرجوع بالدين إلى سذاجته، [وهو إصلاح جاء بما] لا يبعد عن الإسلام إلا قليلا»(7). استعمل عبده مصطلح «الإصلاح» حينما تناول موضوع البروتستانتية، وهو مصطلح استعمله أيضًا لوصف حركته الإصلاحية. كما أنه أثنى على حركة الإصلاح البروتستانتي لتخلصها من قيود التقليد في عرض حديثه عنها. بل إن عبده ذهب إلى أبعد من ذلك ليزعم بأن أصول الإصلاح البروتستانتي ترجعُ إلى التراث الإسلامي، وذلك نتيجة للتعاملات الأوروبية مع المسلمين خلال الحروب الصليبية. وحاجج بأن كل من فكره الإصلاحي والإصلاح البروتستانتي تأثرا بالتراث الإسلامي الأصيل إلى جانب إعمال العقل عند استنباط الأحكام من النصوص المقدسة. فبالنسبة لعبده، مهّد الإصلاح البروتستانتي الطريق لأوروبا لتتقدم وتتطور، وهو الذي أنتج المجتمع المدني الحديث الذي جعل أوروبا قوية(8).
كما روّج بعض الإصلاحيين الإيرانيين لسردية مماثلة تتعلق بمركزية البروتستانتية بالنسبة للحداثة، إذ كتب حبيب الله رضا في سنة 1925م؛ بأن التقليد الشيعي بحاجة إلى ثورة مقدسة و«مفكرين مثل لوثر وكالفن»(9). وفي السياق نفسه، دعا الإيراني علي شريعتي (1933-1977م)؛ «لبروتستانتية إسلاميّة» قد تمهد الطريق لإصلاحات اجتماعية وتُخلص الأمة الإسلامية من تخلفها.
تنطوي البروتستانتية الإسلامية بالنسبة لشريعتي على تحرير الدين من تأويلاته التقليدية. وهكذا قارن الفكر الإسلامي في عصره بالفكر المنتشر في أواخر العصور الوسطى في أوروبا، كما حاجج بأن هذا المشروع يهدف إلى «استخراج وتنقيح المصادر الهائلة للمجتمع المسلم وتحويل العوامل المُشوشة والمُفسٍدة إلى طاقة وحركة»(10). كان الهدف من مشروع البروتستانتية الإسلامية هو التخلص من التقليد وتشجيع الناس على المُشاركة في المُمارسة النقدية والثورية للاجتهاد. في مجتمع كهذا، بالنسبة لشريعتي، سيطال التنوير المسلمين وسيتغير وضعهم من الركود إلى التقدم.
أمّا في جنوب آسيا، قارن السيد أحمد خان إصلاحه الإسلامي أيضًا بالبروتستانتية، وذلك بتصوره لكلا الحركتين باعتبارهما شرطًا سابقًا للحداثة، وقد تمركز خطابه حول الحاجة إلى التغيير الفكري بوصفه طريقًا للتغيير الحضاري، إذ حاجج بأن «الهند ليست بحاجة إلى ستيل أو أديسون فقط، بل بحاجة إلى لوثر بشكل أساسي»(11).
أرى أنّ حجج الإصلاحيين المسلمين حول الحاجة إلى إصلاح بروتستانتي متأثرة بشكل كبير بما يمكن تسميته: السردية الليبيرالية التقدمية البروتستانتية للحداثة. يُميّز المؤرخ براد غريغوري Brad S. Gregory بين سرديتين حول العلاقة بين البروتستانتية والحداثة. الأولى: هي تلك التي يُطلِقُ عليها اسم السردية «المذهبية التنقيحية» revisionist-confessionalization وهي التي تتمركز حول استمرارية الربط بين الإصلاح والعصور الوسطى في أوروبا وقطيعة الحداثة العلمانية معه. أمّا الثانية: فهي التي يُطلق عليها غريغوري اسم «السردية الليبيرالية التقدمية» وهي التي «تتركز على قطيعة الإصلاح مع العصور الوسطى وارتباطه بالعقلانية الحديثة والاستقلالية والازدهار المادي»(12). تُصور السردية الليبرالية التقدمية العصور الوسطى الكاثوليكية بوصفها عدوًا للبروتستانتية والحداثة. وبعبارة أُخرى، تُمثل العصور الوسطى الكاثوليكية «آخرا مؤسسًا» للسردية البروتستانتية الحديثة.
تصور هذه السردية الإصلاح أيضًا باعتباره جزءًا رئيسيًا لقصة التقدم والتطور البشري. كما تتصور رفض لوثر للسلطة البابوية باعتباره مفتاحًا للحرية الفردية وللتفكير العقلاني والعلمي. وبالنسبة لهذه السردية، فإنّ نقد الإصلاح البروتستانتي للاهوت التاريخي ولممارسات الكنيسة الكاثوليكية «كان أساس الانجازات الفكرية للتاريخ الحديث وللفلسفة والعلوم في الثورة العلمية وعصر التنوير»(13). نجد هذه السردية أيضًا في أحد مقالات هيغل (1770-1831م) المتقدمة «الإيمان والمعرفة». يجمعُ هيغل بين الحداثة والبروتستانتية من خلال بروز الذاتية في الثورة اللوثرية (حين تكون الفردانية في المركز ويُصبحُ الداخلي هو الساحة الجامعة لكل العناصر المهمة للوجود الإنساني)(14). ولعل ماكس فيبر هو أشهر منظري هذه السردية الليبيرالية التقدمية. ففي كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، يزعم فيبر بأن الإصلاح البروتستانتي ساهم في «إيقاظ العالم» عن طريق رفض «السحر الذي روّجت له الكنيسة القروسطية»(15). وعلاوة على ذلك، أكّد بعض اللاهوتيين البروتستانتيين مثل ألبيرت ريتشل Albrecht Ritschl على مركزية السردية الليبيرالية التقدمية ليُبينوا مزايا البروتستانتية ومساهمتها في العالم الحديث.
إنّ الأمثلة التي طرحتها أعلاه تُبين تبنّي الإصلاحيين المسلمين في القرن التاسع عشر والعشرين للسردية الليبيرالية التقدمية والتي تؤكد على مركزية البروتستانتية في التقدم الأوروبي. وهكذا، أكد هؤلاء الإصلاحيون على الحاجة إلى تبني المسلمين إصلاحا يشبه الإصلاح البروتستانتي حتى يتمكن العالم الإسلامي من التطور. يقود هذا الخطاب إلى اعتبار الإسلام الأصيل انعكاسًا للبروتستانتية واعتبار التقليد الإسلامي ما قبل الحداثي؛ انعكاسًا للعصور الوسطى الكاثوليكية في أوروبا.
من المهم أن نُشير إلى أنّ تبني السردية الليبيرالية التقدمية لا يعني أن تطابق أفهام الإصلاحيين المسلمين للبروتستانتية كان واحدًا، أو اتفاقهم على الجوانب البروتستانتية التي دعوا إليها. فلذلك، اختلف الإصلاحيون في تطبيق السردية التقدمية الليبيرالية في خطاباتهم واختلفت تأويلاتهم أيضًا لمعنى «الإسلام الأصيل». فعلى سبيل المثال، كان بعض الإصلاحيين أكثر حماسًا من غيرهم للحداثة الغربية. في الحين الذي استند بعضهم إلى البروتستانتية للتشجيع على العودة إلى أصول الإسلام، كما لجأ البعض الآخر إلى التأكيد على أهمية تحديث المجتمعات المسلمة (أي تبني الأعراف الليبيرالية وتطوير العلوم الحديثة وخلق الازدهار المادي)، وعلى الرغم من اختلافاتهم، حاولت أن أُبيّن مدى انتشار السردية الليبيرالية التقدمية البروتستانتية للحداثة في الفكر الإصلاحي الإسلامي. وهكذا، يُمكنُنا الالتفات إلى الدور الذي تلعبه السرديات التاريخية في قراءة الذات وماضيها.
انتهى بحمد الله
مصدر المقالة المترجمة: https://readingmuslims.ca/article/the-need-of-protestantization-reading-oneself-through-european-history/
(1): مثلًا، إرنست جلنر، «التغير وإعادة التغير في إيمان الرجال»؛ كليمنت هنري مور، «في النظرية والممارسة عند العرب»؛ سعيد أمير أرجوماند، «الثورة الإسلامية في إيران»؛ جايمس بيكوك، «التطهيريون المسلمون: علم النفس الإصلاحي في إسلام جنوب شرق آسيا».
Ernest Gellner, “Flux and Reflux in the Faith of Men,” in Muslim Society (Cambridge: Cambridge University Press, 1981), 1-85; Clement Henry Moore, “On Theory and Practice among Arabs,” World Politics 24, no. 1 (1971): 106-26; Said Amir Arjomand, “Iran’s Islamic Revolution,” World Politics 38, no. 3 (1986): 384-414; James L. Peaock, Muslim Puritans: Reformist Psychology in Southeast Asian Islam (Berkeley: University of California Press, 1978).
(2): يوهان بوسو، «إعادة تصور الإسلام في فترة العولمة الحديثة الأولى: محمد عبده وعقيدة التوحيد»؛ أميكي كاتمان، «محمد عبده ومحاوروه: فهم الدين في عالم العولمة».
Johann Büssow, “Re-Imagining Islam in the Period of the First Modern Globalization: Muḥammad ʿAbduh and His Theology of Unity,” in A Global Middle East: Mobility, Materiality and Culture in the Modern Age, 1880–1940, ed. Liat Kozma, Cyrus Schayegh, and Avner Wishnitzer (London: I.B. Tauris, 2015), 296; Ammeke Kateman, Muḥammad ʿAbduh and His Interlocutors: Conceptualizing Religion in a Globalizing World (Leiden: Brill, 2019), 152.
(3): عبد القادر المغربي، «جمال الدين الأفغاني» (القاهرة: دار المعرفة) 97-98.
(4): جمال الدين الأفغاني، «الرد على الدهريين». ترجمة محمد عبده (المطبعة المحمودية التجارية بمصر، 1935) 73.
(5): رومان لوامي، «هل هناك إسلامي بروتستانتي؟» Roman Loimeier, “Is There Something like ‘Protestant Islam’?,” Die Welt Des Islams 45, no. 2 (2005), 245.
(6): المصدر نفسه.
(7): محمد عبده، «رسالة التوحيد» (القاهرة: دار الشروق) 170.
(8): المصدر نفسه.
(9): ميخائيل براورز وشارلز كورزمان، «المقدمة: المقارنة بين الإصلاحات».
Michaelle Browers and Charles Kurzman, “Introduction: Comparing Reformations,” in An Islamic Reformation?, ed. Michaelle Browers and Charles Kurzman (Lanham: Lexington Books, 2004), 5.
(10): علي شريعتي، «من أين نبدأ؟» Ali Shariati, “Where Shall We Begin,” accessed September 1, 2021, http://www.shariati.com/english/begin/begin7.html.
(11): ميخائيل براورز وشارلز كورزمان، «المقدمة: المقارنة بين الإصلاحات».
(12): براد غريغوري، «الإصلاح والحداثة». Brad S. Gregory, “The Reformation and Modernity,” in Protestantism after 500 Years, ed. Thomas Albert Howard and Mark A. Noll (New York: Oxford University Press, 2016), 141.
(13): المصدر نفسه.
(14): فريدريش هيغل، «الإيمان والمعرفة». G. W. F. Hegel, Faith and Knowledge, trans. W. Cerf and H. S. Harris (Albany: SUNY Press, 1977), 57.
(15): براد غريغوري، «الإصلاح والحداثة».