طالما أشبعنا أشياع الفكر الغربي، المستبطنون لمركزية الغرب التاريخية والثقافية في بلداننا، بنظرية المعجزة اليونانية، التي تقضي بأن اليونان القديمة كانت زهرة يانعة في صحراء التاريخ القاحلة. لقد ازدانت اليونان بالثمار اليانعة لشعرائها وفلاسفتها وسط قفر الفقر المتفشي حولها؛ فحضارة اليونان وفكرها قد نشأ من لدنها ويرتدان إليها، دون فضل لأحد عليها سواها.
&nbsp;
وتجعل تلك النظرية من الغرب، بكل المقاييس، معجزة إنسانية في كافة مراحل تطوره التاريخي، لذا لا يملك غير الغربيين سوى أن يبحثوا لهم عن صلة قربى أو نسب حقيقة وزائفة بالغرب، نموذج الإنسانية الأعلى، تمكنهم من تقليده. وللإنصاف فإن باحثين غربيين هم من أماطوا اللثام في القرن الماضي عن زيف تلك النظرية، وسلطوا الضوء على ما فيها من نعرة عرقية، ترتبط بالظروف التاريخية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وأثبت بحّاثة كبار من رتبة جورج سارتون ومارتن برنال أن حضارة اليونان استفادت من الحضارات المجاورة لها، والأعلى كعبًا سياسيًا وثقافيًا وعسكريًا، في مصر وفينيقيا وبابل.
&nbsp;
ألم يقل طاليس فيلسوف اليونان الأول أن الماء أصل كل شيء، لأنه كان يعيش في مصر قبل ذلك، وكانت الديانة السائدة فيها تقرر أن العالم خلق من الماء؟ وألم ينصح طاليس ذاته فيثاغورس الشاب بالسفر إلى مصر لتعلم الفلك والرياضيات، وفعل فيثاغورس ذلك بالفعل وأمضى في مصر عشر سنوات ينهل من معارف وعلوم كهنتها؟
&nbsp;
ولذلك يقتضي البحث عن بداية لعلم السياسة مد البصر لأبعد من سواحل البحر المتوسط، بل وحتى تولية الوجه نحو الشرق، حسبما ذهب إلى ذلك الدكتور محمد حسين هيكل. فعلينا أن ننظر في هذا السياق إلى غير نصوص الفلسفة الكلاسيكية (أي فلسفة أفلاطون وأرسطو)، حتى وإن إتخذت شكلا أو طابعا غير معهود لنا، بعد أن لبثنا عمرا نتعلق بأهداب الغرب وفلسفاته وتياراته وأفكاره ومفاهيمه. وهنا يظهر لنا تقليد أدب النصيحة أو الآداب السلطانية أو مرايا الأمراء، الذي اشتهر في العالم الإسلامي كأحد تقاليد دراسة ظاهرة السلطة إلى جوار السياسة الشرعية والفلسفة المدنية. وإذا تتبعنا هذا التقليد في بداياته فلسوف يقودنا إلى نص الأسفار الخمسة، الذي وضع بين عامي 100 ق م &nbsp;و500 ق م في الهند القديمة.
&nbsp;
ويبدأ هذا الكتاب أول سطر فيه بإهداء يكشف عن المقصد من تأليفه، فالكتاب مهدى إلى ثلاث شخصيات لا نعلمها نحن، ولكن يتضح من توصيف الكتاب لها أنها ممن صنفوا كتبا في علم السياسة، وإلى هؤلاء يقدم الكتاب &laquo;أصدق آيات الإخلاص والخشوع&raquo;. وتُظهر لنا مقدمة الكتاب الظروف التي أحاطت بكتابته، والتي تيسر لنا أن نكشف عن موضوع الكتاب والمقصد منه.
&nbsp;
وتبدأ المقدمة بمفارقة شديدة الخطورة، فهناك ذلك الملك الهندي الذي بلغت سطوته حدًا هائلًا، حتى لكأن قدميه تضيئهما أشعة المجوهرات في تيجان الملوك، الذين ينحنون له إجلالًا وتعظيمًا. ولم يكن ذلك الملك يحوز السلطة المترامية في البلدان فحسب، بل كان أيضًا حكيمًا بارعًا في كل الفنون، وعلى رأسها فن الحكم. لكأننا هنا نتحدث عن الملك-الفيلسوف الذي جعله أفلاطون الإلهي، كما أسماه القدماء، على رأس نظام الحكم الأمثل في الجمهورية. غير أن هذا الملك تعرض للمحنة التي تصيب دوما أولئك الملوك العظام، إذ يقف قبالته ثلاثة أولاد له، يتسمون بأنهم أغبياء لا يفقهون شيئًا، كما يصفهم أبوهم، وهم يجهلون مبادئ علم السياسة جهلًا تامًا.
&nbsp;
وتضع هذه المفارقة الملك والمملكة برمتها أمام مشكلة عملية في غاية الخطورة، فتوريث الملك حكمه لأولئك الأغبياء لا يعني سوى ضياع سلطته وانهيار ملكه وتشويه سيرته أمام الأجيال القادمة. ولما كانت المشكلة لا تقتصر على الملك وحده، بل تشمل حاشيته بلغة الآداب السلطانية، إذ تتشابك مصالحهم السياسية ومكانتهم الإجتماعية وثروتهم المادية وممتلكاتهم مع استمرار نظام حكم الملك بعد وفاته، فقد عرضها الملك على وزرائه الذين أجمعوا على أن الحكيم العجوز وحده هو من يستطيع إنقاذ الموقف. فهو يقدر بحكمته على تعليم الأمراء الأغبياء مبادئ السلطة وأصول الحكم في وقت قصير. إذن فالغرض من الكتاب كما يتضح من مقدمته هو تعليم مبادئ علم السياسة للجهلاء، أي أنه Political Science for Dummies كما تسمى كتب المبتدئين في أيامنا هذه
&nbsp;
وليس مقصد الكتاب هو التثقيف النظري وإنما يتعلق الأمر فيه بغرض عملي مُلحّ. ويتصل بهذا الغرض أيضا تلك العلاقة بين الملك والحكيم أو بين الأمير والمثقف بلغتنا المعاصرة، كما سيكشف عنها الحوار الذي دار بينهما.
&nbsp;
فلقد طلب الملك من الحكيم أن يسدي له ولأولاده معروفًا، إذ فى مقابل تلقين الأمراء الأغبياء الفن الملكي سوف يجزل الملك العطاء للحكيم. والحقيقة أن العلاقة وإن كانت تحمل وصف المعروف أو التفضل، فإن ذلك بالإسم فقط، لأنه طالما حصل الحكيم على مقابل مادي لعلمه يغدو الطرفان متساويين، ولا فضل ولا معروف بينهما. ولإدراك الحكيم ذلك ولأنه أراد أن يكون المعروف معروفا في الحقيقة، فقد رفض الحصول على مقابل، وبذلك تصبح له اليد العليا على صاحب السلطان، بل الأكثر من ذلك أنه وضع لنفسه تحديا علميًا وتربويًا.
&nbsp;
فلقد تعهد بأنه سيجعل الأمراء الجهلاء في خلال ستة أشهر &laquo;متضلعين في علم تدبير الملك&raquo;، وإلا عاقبه الملك بالحرمان من دخول البلاط أو بالإبعاد. لقد قلب الحكيم المعادلة وجعل العلاقة بينه وبين السلطة غير متكافئة لصالحه، فلن يحصل على مقابل مادي، بل هو الذي سيختبر ويتحدى نفسه.
&nbsp;
أما الشكل التربوي للكتاب الذي سيسهل تحقيق مقصده فهو أن ترد تعاليم أو مباديء علم السياسة فيه على لسان الطير والحيوان، ويجعل تشخيص المباديء المجردة &ndash;في صورة طير أوحيوان أو إنسان&ndash; فهم دروس العلم أيسر منالا وأكثر إمتاعا وأقل مشقة وإملالا على نفس المتعلم. أما موضوع الكتاب فهو دراسة السياسة من زاويتين، كما يتضح من أقسام الكتاب، الزاوية الأولى هي مجال ممارسة السياسة، وينقسم ذلك بدوره إلى سياسة داخلية محورها عملية التفاعل بين مركز السلطة والأطراف المحيطة به في إطار نفس الوحدة السياسية، وسياسة خارجية محورها عملية التفاعل بين الوحدات السياسية المختلفة مع غياب سلطة عليا فوقها، وهنا تعبر الغابة أبلغ تعبير عن هذا المستوى للعلاقات السياسية. أما الزاوية الثانية فهي أدوات ممارسة السياسة، ويتعلق الأمر بأداتين، هما استخدام الكلمات أو ما سوف يسميه الحكيم أرسطو فن الخطابة ويجعله جزءًا من علم السياسة، وكذلك استخدام الأفعال أو ما سوف يسميه أفلاطون الإلهي فن التشريع ويفرد له مؤلفًا خاصًا سيترجمه القدماء باسم النواميس.
&nbsp;
ورغم أن مقصد الكتاب هو تمكين الحاكم من ممارسة السلطة وهو على دراية بأصول ومبادئ فن السياسة، كما يتضح من المقدمة وأقسام الكتاب، الأمر الذي يُدخل الكتاب في تقليد أدب النصيحة، إلا أننا إذا دققنا النظر سنجد أنه يميل في كثير من الأحيان إلى تصحيح الخلل القائم في العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم، بتمكين المحكوم من المقاومة. إذن فالسياسة في الكتاب، وإن لم يكشف الحكيم عن ذلك صراحة، وما كان له أن يقوم بذلك فهو بحكمته يعلم حدود القول جيدا وعواقب تجاوزها، أقول إن السياسة في الكتاب أوسع من مجرد ممارسة السلطة على المحكومين، بل تشمل أيضا ممارسة المقاومة تجاه الحكام، لأن الممارسة السياسية ليست مفصولة عن القيم، أو ما يسميه أفلاطون الفضائل النظرية. ولعل قصة الأرنب والأسد تكشف برموزها عن ذلك بأوضح ما يكون.
&nbsp;
يُحكى أن أسد الغابة كان شديد البطش ولا تسلم الحيوانات من أذاه فقد كان يقوم بإعدام الحيوانات بالجملة، ومن دون أي هدف أو رحمة. وهكذا يرمز الأسد في القصة إلى الحاكم شديد الإستبداد والطغيان، الذي يلتذ بالبطش والتنكيل برعاياه، وهو يفعل ذلك بمقتضى الغرض والشهوة، كما يقول ابن خلدون. ولما كان هذا الحاكم قد أخضع المحكومين، فكل ما استطاعوا القيام به هو تذكرته باليوم الآخر والحساب والإثم الذي سيزيل النعيم الأخروي، وهو ما يعني الاستكانة والعجز التامين عن القيام بأي شيء ازاء الأسد.
&nbsp;
بل الأكثر من ذلك أنهم أخضعوا أنفسهم للأسد واستبداده، حيث قاموا بترشيد هذا الاستبداد من خلال تنظيم وتوزيع تكلفة الخضوع له على الجميع، أي أنهم كانوا يعبدون أنفسهم للحاكم الطاغية.
&nbsp;
فاتفقوا فيما بينهم على أن ترسل كل قبيلة منهم على التوالي أحد أفرادها في كل يوم ليكون طعاما للأسد، وهذا الفرد الضحية يذهب بقدميه إلى حتفه طائعا مختارا. أرأيت ذلا واستكانة أشد من هذا في مواجهة الطغيان الفاجر؟ ونتيجة هذا الخضوع المهين فقد أقرهم الأسد على ما ألزموا هم أنفسهم به من ذل واستكانة.
&nbsp;
وفي هذا السياق تظهر على المسرح السياسي شخصية الأرنب، باعتباره الضحية التي حان دورها، والأرنب هو النقيض الموضوعي للأسد، إذ يرمز للجبن والضعف والاستكانة، فالشقة واسعة بينه وبين الأسد، والخلل في ميزان القوة بينهما هائل. وهو أمر مقصود في حد ذاته، لأن الأرنب وقد أبى أن يساق إلى حتفه ويذهب بنفسه إلى براثن الموت، أبرز أهمية ودور الحيلة، التي هي قرينة الحكم ونتاجها، باعتبارها تمكن صاحبها من التغلب على عجزه، مهما بلغ ضعفه. بل لقد قرر الأرنب في عزم أنه سيصرع الأسد بالحيلة، إذن فالحكمة هي وحدها القادرة على سد الفجوة الواسعة بين طرفي النقيض في المعادلة السياسية واستعادة التوازن في القوى بينهما.
&nbsp;
بل والأدهى من ذلك أنها ستمكن الأضعف من رقبة الأقوى. وهكذا فما كان من الأرنب الضعيف الأريب إلا أن سار ببطء ليصل في وقت متأخر على موعد طعام الأسد، وبذلك يفتعل مناسبة لاستثارة غضبه واستفزازه. وحين سأله الأسد الطاغية عن سبب تأخره، صب له الفخ، فذكر أنه التقى أسدًا آخر لا يعترف بسلطان الأسد الطاغية، ويحتقر شأنه ويسبه بأن أطلق عليه اسم اللص.
&nbsp;
إن الأرنب قد أفرغ مكنون صدره على لسان الأسد المتخيل, الذي صنع منه عدوا متوهما للطاغية حتى يحرك قوته، من خلال استثارة غضبه واستفزازه في الاتجاه الذي يريده هو. وذهب الأرنب خطوة أبعد من ذلك بأن حرك منطق التسلط الكامن في عقل الأسد، بأن أخبره بأن الأسد المتخيل ينتظره ويتحداه في معركة أو صراع على السلطة يفوز فيه المنتصر بحكم الغابة.
&nbsp;
ولما كان الطاغية متغلبا، فإن منطق التغلب يحكم رؤيته للسلطة وممارسته لها، ولذا فقد قبل تلك الدعوة للمعركة لأنها قائمة على نفس المنطق، ألا وهو أن حكم أهل الغابة لمن غلب. وبعد أن قام الأرنب بالتلاعب بالأسد الطاغية شعوريًا وفكريًا، بقي له أن يوجه حركته ليسوقه إلى حتفه ويتخلص منه. فقد قاد الأرنب الأسد إلى العدو المتوهم، وجعله في الحقيقة يتقدم نحو بئر صافية عميقة الغور.
&nbsp;
ولما كان الأسد الطاغية جاهلًا فاجرًا، فهو لم يكن يعلم شيئًا عن المرآة والتمرئي والصورة الانعكاسية، فلما رأى صورته على صفحة الماء، وبالتأكيد كان هو متجهما منتفخ الأوداج متأهبا للوثب ومتحفزا للقتال، لم يلبث أن قفز على انعكاسه في الماء أو عدوه الذي يتحداه بظنه، فلقى حتفه.
&nbsp;
إن هذه القصة لتشير إلى قدرة الحكمة على معالجة الخلل في ميزان القوى بمواجهة ممارسة السلطة بممارسة المقاومة، بما يجعل لتأسيس علم السياسة الذي أراده الكتاب غرضًا عمليًا، يتحقق على يد الأرنب الضعيف في مواجهة الأسد الطاغية.

تأسيس علم السياسة

بدأ الحكيم أرسطو كتاب السياسة بتعريف للدولة يربطها فيه بالخير الأسمى، ويجعلها أكبر وأعلى وحدة إجتماعية في المدينة، ويجعل أرسطو في ذلك التعريف من بيت العائلة الوحدة الأساسية في الدولة، بحيث تتكون المدينة من مجموعة من البيوت العائلية. ويتأسس البيت كوحدة إجتماعية على نوعين من العلاقات: العلاقة الأفقية بين الأحرار، أي بين الأب والأبناء وبين الزوج وزوجه؛ والعلاقة الرأسية بين أولئك الأحرار، أي الأب والأم والأبناء، وبين العبيد. وقد كان أرسطو في تضمينه تعريف الدولة لهذا المستوى السفلي للعبيد مخلصًا لواقعه الاجتماعي وظروف عصره، إذ كان المجتمع الأثيني ينقسم إلى طبقتي السادة والعبيد، وكانت طبقة العبيد فيه تفوق طبقة السادة عددًا، بما يجعل مجتمع السادة الأحرار مجتمع أقلية. وكان أولئك العبيد يزاولون المهن اليدوية التي يأنف سادتهم المتمتعين بفراغ الوقت اللازم للتفلسف من الاشتغال بها، وكان العبيد أيضًا بمثابة ممتلكات حية للسادة يتعيشون على ثمار عملها، ونتج عن ذلك التقسيم الاجتماعي للعمل سمو التفكير النظري المجرد للسادة على النشاط اليدوي للعبيد في العقل اليوناني.
&nbsp;
وداخل هذا الإطار، فرّق أرسطو بين العبودية القانونية والعبودية الطبيعية، فهناك من أبناء اليونان من أوقعتهم ظروف الحرب في الأسر؛ ففقدوا حريتهم واستحالوا عبيدًا من الناحية القانونية، لكن طبيعة العرق اليوناني تتنافى أبدًا مع العبودية مهما كانت الوضعية القانونية، إذ اليوناني بطبيعته سيدٌ حر. وهذه مسلمة واضحة بذاتها عند اليونان.
&nbsp;
غير أن الأمم الشرقية كالفرس والمصريين عبيد وأبناء عبيد بحكم طبيعتهم، وهذه بديهية لدى اليونان أيضًا، وحتى سادتهم وحكامهم فهم عبيد أيضًا، وذلك بحكم ما جبلوا عليه جميعًا من ذلة وجبن وخبث واستكانة.
&nbsp;
وبعيدًا عن صواب أو خطأ النظرة الأنثروبولوجية لحكيم اليونان أرسطو، الذي كان يجنح هو وأستاذه أفلاطون إلى إعلاء شأن العنصر اليوناني وتقسيم بني البشر إلى يونان وهمجٌ برابرة، أقول بعيدًا عن كل ذلك فلقد كان أرسطو مخلصًا لروح المنطق الكلاسيكي الذي رفع قواعده، وهو يقوم على فكرة ثنائية القيمة. ويعني ذلك أن مقولات المنطق تخضع لقيمتي صدق، ألا وهما الصواب والخطأ أو الصدق والكذب، ووفق روح تلك الثنائية فالشخص إما سيدٌ حر أو عبدٌ مسترق، ولا وسط بينهما، وهو ما يعرف في المنطق باسم قانون الثالث المرفوع، فلا توجد حالات أو فئات أخرى بينية. ويختلف الأمر عن ذلك تمامًا فيما يسمى بالمنطق الغائم (fuzzy logic) ، الذي تتعدد فيه قيم الصدق بين الصواب والخطأ، تمامًا كتعدد الأرقام إلى ما لا نهاية بين الصفر والواحد.
&nbsp;
وتفتح روح المنطق الغائم الباب أمامنا لاستيعاب تلك التفرقة التي استلهمها وجردها المرحوم مالكولم إكس من تفاصيل الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للسود في الولايات المتحدة، ألا وهي التفرقة بين الـfield nigger، ولنترجمه عبد الحقل، وبين الـhouse nigger ، ولنترجمه عبد الدار. فإذا علقنا قانون الثالث المرفوع ومحونا الخط الفاصل بين الفئتين التقليديتين للسيد والعبد، سيظهر أمامنا ما لا نهاية له من الحالات، التي تمتزج فيها الحرية بالعبودية بنسب متفاوتة، ويغلب على كل حالة سمت الطرف الأقرب إليها.
&nbsp;
وعبد الحقل كما أسميناه هو نفس ذلك العبد الذي تحدث عنه أرسطو، وعرفته مختلف الحضارات القديمة، فهو يكد ويكدح ويخدم السيد وتصفع وجهه إهانات السيد ويتمزق ظهره تحت ضربات سوطه، لأنه ليس سوى أداة بشرية مملوكة للسيد، بحسب وصف أرسطو له.
&nbsp;
أما ذلك النوع الآخر من العبيد، الذي أسميناه عبد الدار، وتفرد مالكولم إكس بتجريده من الحياة المعاشة للسود في الولايات المتحدة، فهو غريب في غرابته، التي تظهر جليًا عندما نضعه في مواجهة شقيقه عبد الحقل، لنقارن بينهما. ففي حين يرتدي عبد الحقل ثيابا رثة مهلهلة، ويتلقى إهانات السيد المقذعة وضرباته المؤلمة، التي تسحق آدميته، نلفى عبد الدار والسيد يكسوه ثيابًا ناعمة مهندمة، ويعامله برقة ورقي شديدين. ويشعر عبد الحقل دائمًا بالجوع، ولا يزدرد سوى الطعام الخشن الكريه، ويتلظى بحنق شديد على السيد، ولا يشعر تجاهه سوى بالغضب والكراهية، وتلك المشاعر ترسخ داخله هوية مستقلة ومتمايزة عن السيد.
&nbsp;
أما عبد الدار فهو يلتذ بأكل الطعام اللين، وهو نفس الطعام الفاخر للسيد، ويتنعم بالعيش في دار السيد معيشة رغدة هنية، وإن نفسه لتخلو من أية مشاعر للحقد أو الكراهية تجاه السيد، ويشعر أن دار السيد هي الجنة على الأرض، ومن هنا لا يفهم أو يسيغ حنق عبد الحقل على السيد أو محاولاته للهروب من خدمته. ليس هذا فحسب، بل إن عبد الدار ليتماهى مع السيد تمامًا بحيث يفقد بالكلية أية ذاتية أو هوية مستقلة، فإذا مرض السيد فهو لا يسأله &laquo;كيف حالك؟&raquo; وإنما &laquo;كيف حالنا؟&raquo;، أنظر كيف فني وجوده الفردي في ذاتية السيد من خلال ضمير الجمع، فهو ليس حاله هو أي السيد ولكنه حالنا نحن أي السيد وما ملكت يداه. ولو أردت أيها القارئ أن تجد تجسيدًا حيًا لعبد الدار، فما عليك سوى أن تراقب تلك الشخصية التي يجسدها الممثل الأمريكي صمويل إل جاكسون في فيلم .&raquo;Django Unchained&raquo; للمخرج تارنتينو
&nbsp;
إن السيادة هي إحدى سمات الدولة الحديثة وأبرز عناصر تكوينها، وتعني السيادة أن السلطة العليا المطلقة تكون حكرًا على الدولة في أرض الإقليم، بحيث تغدو هي المركز الأوحد للسلطة على كل شبر وفوق كل فرد في حدود ذلك الإقليم، وبذلك تكون الدولة هي القاهرة فوق عبادها في الإقليم. وحينما يتعلق الأمر بالدولة ما بعد الكولونيالية أو الدولة -ضد- الأمة أو شبه-الدولة، فقد كان الهدف من سياساتها القمعية والتنموية والأيديولوجية هو إحكام قبضتها على عبيد الحقل لمواصلة استغلالهم، واصطناع فئة منهم ليكونوا عبيد الدار.
&nbsp;
وإذا طبقنا تصور مدرسة النظام العالمي للمركز والأطراف لاتضح أن سادة الأطراف هم عبيد دار لسادة آخرين، ولكن هذا حديث آخر لا يتسع له المقام هنا. المهم أن عبيد الدار يلعبون دورين في منتهى الأهمية، فهم من ناحية يريحون السيد من عناء الإمساك بالسوط لجلد عبيد الحقل وتعذيبهم وتثبيت قبضة السيد عليهم جميعًا، كما يسهمون في تصفية الأجواء بصورة مصطنعة بين السيد وعبيد حقله، من خلال إزاحة الخلافات والمشاحنات والتباغض إلى حيز العلاقة بينهم وبين عبيد الحقل، بما يعلي من مكانة السيد كحكم عدل تشرئب إليه أعناق الأطراف كلها ليحكم فيما شجر بينهم. وفي ذلك يشعر عبيد الدار بلذة السيطرة على بني جلدتهم وممارسة القسوة والتعذيب عليهم، حتى وإن كان لصالح السيد ولحسابه، لأن ممارستهم لذلك القدر من السلطة تشفي غليل إحساسهم الداخلي بذل العبودية، فهم في النهاية عبيد السيد وملك يمينه. ومن ناحية أخرى، يمثل عبيد الدار، الذين يحركهم السيد من وراء ستار كعرائس الماريونيت ليخفي وراءهم وجه استغلاله القبيح البشع، ويمسح فيهم قذارة ممارسة العسف والاستعباد، نموذجًا أرقى في خدمة السيد يتطلع إليه عبيد الحقل، فيعدهم السيد ويمنيهم ويمنون هم أنفسهم بأن يصبحوا عبيدًا لدار السيد، طالما كانت عبوديتهم للسيد قدرًا مقدورًا. ويشترط لتحقق ذلك الترقي في خدمة السيد أن يتخلى عبيد الحقل عن كراهيتهم وعدائهم للسيد، وأن ينسلخوا من هويتهم المؤسسة على تلك الكراهية، فيفنوا حبًا في السيد وعشقًا له، وأن يتفانوا في خدمة السيد ولو بخيانة بني جلدتهم وأولي قرباهم. وبكلمة واحدة، فعبد الدار؛ هو النموذج الذي يقدمه السيد كثمن للفوز بمكان الخدمة في جنة داره، وفي ذلك يتنافس المتنافسون أشد التنافس!!
&nbsp;
لعلك تخال أيها القارئ أن اللجوء إلى تلك الفئات التحليلية القديمة البالية يثير الضحك أوالسخرية، لكنها مع الأسف تعري حقيقة وجودنا وراء الأردية الزائفة، للمواطنة والتمثيل والحوكمة والشفافية والاستقلال، ذلك أن علاقات العبودية أعمق وأرسخ من أن تلغيها وثيقة رسمية كما تعلمنا من أرسطو.
&nbsp;
فقد تصير العبودية جبلة للشخص تهلك إنسانيته، برغم ما يتدثر به من ناعم الثياب وما يأكله من لين الطعام، فينتقل من خدمة سيد إلى سيد إلى سيد، ويتفانى في خدمة كل واحد من هؤلاء، ويبكي عليه حين يموت ويظن نفسه حرًا وهو فقط عبد من نوع آخر، سواءً علم ورضي أو جهل وأبى. ولذلك يحتاج التحرر الفعلي من استعباد واستغلال السيد إلى أكثر من الشعارات التافهة والوثائق القانونية الفارغة. وحينما ترى أو تسمع لواحد من كبراء الملأ أو تقرأ لمن تعتقد علمه أو فضله أو ورعه، وتستريب من لحن قوله أو حتى ظاهره، فاعلم أنك تقف إزاء واحد مهما علا كعبه في الظاهر فهو من عبيد الدار.

عبيد الدار

في العدد الحادي عشر الصادر بتاريخ 19 يونيو عام 1884 من جريدة العروة الوثقى، التي كان السيد جمال الدين يحررها من باريس بمعاونة تلميذه المصري الشيخ محمد عبده، كتب السيد مقالا صغيرا لا يتجاوز عدد صفحاته ثمان صفحات، عنونه بآيتين قرآنيتين كريمتين، هما: (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) و (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون). وتلخص الآيتيان الكريمتان برأيي موضوع المقال، ألا وهو الفلسفة السياسية للسيد جمال الدين؛ فهذا المقال بحث شديد الاختصار والتركيز يحلل الواقع السياسي من منظور نفسي توحيدي، إذا جاز لي القول.
&nbsp;
بدأ السيد مقاله، على عادته في معظم المقالات الفكرية للعروة الوثقى، بقاعدة عامة هي سنة تكوينية لله في خلقه البشري، وتتصل بتجذر الباعث النفسي لطلب المجد والميل إلى الرفعة في الإنسان: كفرد يطلب علو المنزلة بين أبناء قومه؛ وكأمة تطلب رفعة المكانة لدى سائر الأمم. وأساس هذه المسالة الفطرية التي جبل عليها النوع الإنساني منفردا ومجتمعا هو العناية الإلهية به كي يرفعه فوق سائر المخلوقات؛ لاحظ هنا كيف جعل السيد هذه السنة النفسية التكوينية، الفردية والجماعية، تجسيدا للطف والفضل الإلهيين الحافين بالكائن الإنساني. فطالب المجد، المجبول على ذلك في أصل فطرته، يتغلب على ما يصادفه في طريق طلب المجد من مصاعب وعقبات، ويواصل سيره حتى يصل لغايته، ولو منع من مواصلة المسير لتململ وتضجر حتى لكأنه يتقلب على الجمر.
&nbsp;
ومصدر معرفة السيد بهذه السنة التكوينية والقاعدة النفسية الثابتة ليس كتاب الله المسطور وإنما كتاب الله المخلوق، إذ يرى أن استقراء أعمال البشر وأحوالهم تؤكد على أن باعث سلوكهم هو طلب الكرامة وعلو المقام، الذي لا يدانيه الباعث المادي أو الاقتصادي من قريب أو بعيد. ذلك أن لذة الشرف والرفعة هي اللذة القصوى بالنسبة لنفس الإنسان، وكل لذة أخرى هي أدنى منها في المرتبة وتكون مجرد وسيلة لها، بل الحياة الدنيا ذاتها مجرد ساحة يعبرها الإنسان للوصول إلى غاية المجد.
&nbsp;
وبعد أن ثبت السيد لدى قارئه مكانة تلك السنة الإلهية التكوينية وتوجيهها لسلوك الكائن الإنساني في حياته الأرضية، نجده يغوص في أعماق النفس الإنسانية ليصل إلى ماهية المجد، الذي ألهم الله الإنسان السعي إليه، ولا يتركنا مع كلمة المجد كلفظ رنان أجوف، وبذلك يؤسس تصوره السنني على أعماق النفس الإنسانية ويجذره فيها. فالمجد عنده هو حالة يعترف الناس لصاحبها بالشرف والعلو، ومن ثم يذعنون له بالخضوع وينقادون لطاعته، ليس هو فحسب ولكن كل من يدخل في نسبه، كأقاربه وعشيرته وسائر أمته. ولما كان باعث المجد مركوز في فطرة الإنسان، فلا يهنأ له عيش حتى يعترف له الناس بما يسميه جمال الدين بـ&laquo;الأعلوية&raquo;، ويعاني في سبيل ذلك من التعب البدني والانقطاع عن اللذات واقتحام المهالك، ما لا يمكن تصوره. فاعتقاد الإنسان أن المجد غاية حياته يجعله يستصغر هذه الحياة الدنيا ويحتقرها، ولا يعبأ إطلاقا لو ضحى بحياته دفاعا عن المجد أو طلبا له. ويصل السيد إلى عمق سحيق في النفس الإنسانية حين يفرق بمنتهى البراعة بين المجد، الذي لبه الأمل (كمعرفة هادية في المشكلات وكباعث منهض للعزائم) من جهة، وبين التمني والتشهي من جهة أخرى. إن الأمل عنده هو رجاء وعمل وحمل للنفس على المكاره وأول خطوة فيه بذل الروح والمال، أما التمنى فهو ركون إلى الدعة والراحة وتوهم أن يبدل الله سننه في خلقه على هوى المتمني وهواجس نفسه.
&nbsp;
وبعد أن استوفى جمال الدين شرحه للسنة التكوينية وأرساها على أساس متين في عمق النفس الإنسانية، تلقاه يوظفها لبناء تصوره عن الوجود السياسي. فلما كان الوجود السياسي هو اجتماع أفراد، فإنه سينطبع بما في أعماق نفوس أولئك الأفراد، بل وسيتأسس عليه ابتداء.
&nbsp;
وعلى هذا النحو يربط السيد بين الباعث النفسي لطلب المجد وبين فتح وغلق المجال السياسي؛ فنظرا لما هو مغروس في نفس كل فرد من طلب الرفعة والاعتراف بالمكانة لدى الآخرين، فسوف يتزاحم أفراد الجماعة على الأعمال المفضية للمجد بتصورهم، وسوف يتولد عن ذلك التزاحم مصادمات ومقاومات. وبذلك يتأسس المجال السياسي الصراعي على الميل النفسي المركوز في أصل الجبلة الإنسانية، عبر ما يقود إليه من تنازع في الأعمال بعد التنازع في الأهواء والآراء. غير أن السيد بقوة استبصاره قد استشرف آفاق نهج لتسوية تلك المنازعات ومن ثم لتصفية المجال السياسي الصراعي ذاته، ألا وهو سعة العقل، لكنه ليس العقل الباتر للباعث النفسي، على غرار محاولة الماركسيين بتر ما لا يتفق مع أهوائهم من جوانب الفطرة. بل سيعمل العقل بما أوتي من سعة على تحقيق غاية ذلك الباعث النفسي، ولكن بحيث لا يقود إلى المزاحمات والممانعات، الناجمة عن تضارب الآمال والأعمال. ويتأتى ذلك من خلال تحديد هذا العقل لكل فرد في المجتمع العمل الذي يتناسب مع طبيعته، ويكون له بفضل هذا العمل المنزلة العليا التي يبتغيها في النفوس، وحينئذ سيتمتع كل فرد بمنزلة تختلف عن منازل الآخرين، فيصبح الجميع أمجادا شرفاء بفضل ما يقومون به من أعمال.
&nbsp;
غير أن الحل الذي استشرفه جمال الدين ليس متحققا في الواقع، بل يزخر الواقع السياسي بالمصادمات والمقاومات التي تؤدي إلى هيكلة المجال السياسي، بوضع تراتبية له وبتسكين الأفراد في مراتبها، نتيجة للأثر النفسي لتلك المصادمات عليهم. وبيان ذلك فيما عرضه السيد أن تكرار المصادمات والإخفاق في الوصول إلى غاية المجد والرفعة يصيب البعض باليأس والقنوط، إذ تترسخ لديهم قناعة بعجزهم عن درك مبتغاهم من المنزلة والمكانة. ويقود اليأس أي فقدان الأمل إلى تبدل بل ربما تشوه الفطرة فتنحط وتتسفل، ومن علامات ارتكاس الفطرة وانحطاطها: عدم التورع عن إتيان الرذائل الخسيسة؛ وعدم النفور من التحقير والإهانة، بل والاعتياد وتوطين النفس عليهما؛ والأهم من ذلك فقدان المشاعر الإنسانية والرضا بحياة البهائم، فلا يلتفت ذاك الكائن مرتكس الفطرة إلا إلى احتياجات "القبقب والذبذب"، على حد تعبير جمال الدين، أي البطن والفرج.
&nbsp;
وفي الوقت الذي يتسفل فيه وينحط أولئك المحبطون اليائسون شعوريا وسلوكيا، فهم أيضا يتدنون في التراتبية السياسية، ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يواكب هبوطهم في الهرم السياسي صعود غيرهم فيه، ممن نهضت بهم هممهم وعزائمهم القوية، فيكلفون أولئك المحبطين اليائسين بالأعمال الشاقة ويحرمونهم حتى من ثمرات كسبهم. ليس هذا فحسب، بل إن السادة من أصحاب العزائم والهمم ليعاملون أولئك المتسفلين المنحطين معاملة أدنى من الحيوانات، لأن هؤلاء السادة يشعرون، وهم محقون في ذلك، أن أولئك أسقطوا أنفسهم من منزلة كانوا يستحقونها بالفطرة الإنسانية ورضوا بالتسفل والتدني.
&nbsp;
وهكذا أقام جمال الدين الوجود السياسي وميز بين طبقاته على أساس قوة أو ضعف الباعث النفسي، الذي اتخذ منه سنة تكوينية للفطرة الإنسانية، غير أنه لم يكتف بهذا. فبعد أن قاد قارئه من أعماق النفس الإنسانية صعودا إلى قمة الهرم السياسي، ينزل به مرة أخرى إلى عمق النفس الإنسانية، ولكن إلى جانب آخر منها، ألا وهو الأساس الفكري أو العقدي الموجه للباعث النفسي على الرفعة والضعة أي الأمل والقنوط. وذلك حتى لا يترك السيد قارئه محبطا بدوره أمام لغز نفسي محير، فلا يعلم لماذا يشعر البعض باليأس والبعض الآخر بالأمل، رغم أن طلب المجد مركوز في أصل فطرة الجميع. وهنا يدلف السيد إلى مسألة الجبر والاختيار، لا من الباب الاعتزالي النافي للقدر، ولا أيضا من الباب الأشعري، وإنما من باب خاص به ينفتح على تصور متميز ودقيق للفاعلية الإلهية في المجال الإنساني.
&nbsp;
يرى جمال الدين أن صاحبنا الغارق في يأسه وإحباطه، الذي انحط عن رتبة وجوده المكفولة له بأصل الفطرة، إنما يعتقد أن جميع أفعاله تصدر عن قدرته وإرادته وحدهما، دون وجود يد قادرة قاهرة فوقه، ولما تكرر اصطدامه بالعقبات الأقوى منه التي أفضت إلى فشله غير مرة، فقد قاس قوته الواهنة الفانية إلى تلك القوى المعوقة الأضخم، وحينما تيقن من الفارق الهائل بينهما خلص إلى استحالة تغلبه عليها بقوته، ومن هنا انقطع أمله ووقع في الشقاء الأبدي. وعلى النقيض من ذلك، يجد جمال الدين أن صاحبنا الذي يعتقد في وجود مدبر أعظم للكون، تخضع كل قوة لسطوته وجبروته، وبيده مقاليد ملكه، ويصرف عباده كيفما يشاء، لن ينظر إلى قوته الفانية الضعيفة، كما فعل اليائس حين واجهته العقبات الأقوى، بل إنه سيركن إلى قوة الله التي هي أعلى من كل قوة. ولذلك سيفيض الأمل من بين جوانحه طلبا للمجد والرفعة، ومهما تعاظمت الشدائد أو تكأكأت عليه المصائب، ستقوى عزيمته وهمته في مدافعتها لا اعتمادا على قدرته هو وإنما اعتمادا على قدرة مدبر الكون، وسيسعى لذلك دون كلل لنيل الكمال والفوز بسعادة الدارين.
&nbsp;
عند هذا الموضع يستشهد السيد بالآيتين الكريمتين المعنون بهما المقال، إذ في ظلالهما تتحرك أفكاره عن الأصل النفسي الإيماني للوجود السياسي. ولكن جمال الدين لم يقدم في هذا المقال تنظيرا سياسيا باردا من أجل لذة بناء الأنساق النظرية، لكنه قدم تنظيره السياسي ليكون مرتكزا للحركة السياسية، الداخلية والخارجية للمسلمين، وقد أظلتهم الظروف التي كانوا يكابدونها وقتذاك وما يزالون كذلك للآن أيضًا !!

الفلسفة السياسية عند السيد جمال الدين

منذ أيام قليلة، كنت أقرأ في مقدمة كتاب&nbsp;شخصية مصر، للمرحوم جمال حمدان، ولفت نظري تلك العبارة من عباراته المنمقة، قليلة المبنى كثيرة المعنى؛ &ldquo;فعيوب الشخصية المصرية خطيرة وليست بالهينة&hellip;فهي التي أوردتنا موارد التهلكة في الماضي ووسمت أو وصمت&hellip;تاريخنا بالعبودية للطغيان في الداخل دائما وللاستعمار في الخارج غالبًا، وهي التي تهدد حاضرنا بنفس الشكل بالخضوع للديكتاتورية الغاشمة في الداخل وبالركوع للعدو الأجنبي الغاصب في الخارج&ldquo;. وعندما وضعت هذه العبارة على صفحتي على الفيسبوك، كما أفعل عادة، وجه إليها واحد من أساتذتي الذين أجلهم، د. مصطفى كامل السيد، نقدًا بأن هذا الحكم فيه من القسوة بعض الشئ، لأن هذا الشعب الذي نشهر بعيوبه هو ذاته من قاوم الطغيان والاحتلال على امتداد تاريخه.
&nbsp;
ولعل السؤال الذي يمكن استنباطه من اختلاف الرأي بين الأستاذين الجليلين في تقييم الشخصية القومية للشعب المصري، هو: هل كان حكم جمال حمدان فيه من القسوة الشئ القليل أو الكثير؟ أم أنه وضع يده كالطبيب البارع على موضع شديد الإيلام في جسدنا السياسي، ومن هنا الحكم عليه بالقسوة، على الرغم من أنه كان فقط يتحسس الجسد لمعرفة موطن الداء فيه لتشخيصه ووصف العلاج الفعال له؟ ولقد حدث لي موقف منذ يومين اثنين فقط، يمكنني على طريقة د. عبد الوهاب المسيري &ndash;إن جاز لي أن أرتقي هذا المرتقى الصعب&ndash; أن أجرد منه نموذجًا تفسيريًا، يجعل من الممكن الاقتراب من هذا الإشكال ولو خطوة، ورؤيته بشكل أوضح ولو بدرجة.
&nbsp;
كنت ألقي محاضرة من المحاضرات التمهيدية في المقرر، الذي أتولى تدريسه لطلاب الفرقة الثالثة بقسم العلوم السياسية، عن تعريف العلم. وكانت تلك المحاضرة عن بعد باستخدام تطبيق زووم الشهير، ولا غرابة في هذا لأن هؤلاء الطلاب، بل والجامعة بأسرها، قد صار لهم ما يقرب من عامين يدرسون عن بعد، فيما أسمي بالتعليم الهجين، للتغلب على خطر التقارب المكاني في ظل جائحة كورونا.
&nbsp;
 ويفترض بداهة في أي محاضرة، حتى يُسمع صوت المحاضر بوضوح لجميع المشاركين، أن يضغط الطالب على زر في التطبيق يمنع صوته، اسمه Mute.
&nbsp;
والمشكلة في تلك المحاضرة، ويا للدهشة !!، أنني كنت في حاجة إلى التنبيه على هؤلاء الطلاب أكثر من مرة على القيام بذلك، فلا تغطي أصواتهم غير المنكرة وأحاديثهم الجانبية غير التافهة على صوتي أثناء المحاضرة. ولما يئست من التزامهم بذاك الأمر البدهي، وبعد أن نهرتهم بعنف على ذلك، أنهيت المحاضرة بعد أقل من عشرين دقيقة من بدئها.
&nbsp;
كانت هذه هي القصة أو الطرفة غير المضحكة، فلتبدأ معي أيها القارئ في صمت على تجريد النموذج التفسيري منها، خطوة بخطوة. إن المحاضرة بالأساس هي تشكيل اجتماعي مكون من عدة أطراف داخلة فيه، ودوره هو أداء وظيفة يحتاج الكيان الاجتماع الأوسع لأن تقوم خلية منه بها، ألا وهي؛ التوجيه المعرفي.
&nbsp;
ويعتمد التواصل بين الأفراد من أعضاء التشكيل الاجتماعي، سواءً عن قرب بالحضور المباشر، أو على البعد في الواقع الافتراضي، على تبادل الرسائل البصرية والصوتية بين الأطراف المختلفة، سواء مع التقارب الجسدي أو مع التباعد الجسدي.
&nbsp;
ودور التكنولوجيا الحديثة، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، هو نقل الرسائل البصرية والصوتية بذاتها (بالميكروفون والكاميرا) أو بالرمز (بالإشارات المرئية والمسموعة)، حتى يتمكن التشكيل الاجتماعي من أداء وظيفته. والمحاضرة هي تشكيل اجتماعي هيراركي (تراتبي)، سواءً في قاعة الدرس أو الواقع الافتراضي، بمعنى أن الأطراف الداخلة فيه لا تقف على مستوى واحد، ولكن على مستويين مختلفين نوعيًا. ذلك أن القيام بالوظيفة المعرفية للتشكيل يستلزم ضبط وتنظيم عملية تبادل الرسائل، أي تنظيم التحدث والاستماع، لأن حدوث تداخل اتصالي وفوضى في الرسائل، لن يعطل أداء التشكيل لوظيفته فحسب، بل سيؤدي إلى انهيار وجوده من الأصل. وما عملية ضبط وتنظيم الرسائل أو التحدث والإنصات سوى ممارسة للسلطة من طرف على طرف آخر، ومن هنا محورية دور السلطة في قيام التشكيل الاجتماعي ذاته وأدائه لوظيفته الضامنة لاستمرار وجوده.
&nbsp;
على أن ممارسة السلطة هي عبارة عن تبادل الالتزامات الذاتية بين هذين الطرفين: فالقائم بالتدريس من جهة يلزم نفسه بالحضور وعرض المحتوى المعرفي على الطلاب وشرحه ومناقشتهم فيه، بعد أن ألزم نفسه قبلًا بتحصيله ليقوم بذلك كله؛ وطالب العلم، إن كان يطلبه حقًا، يلزم نفسه بالحضور أيضًا، لكنه حضور المنصت المستجيب المنصاع لنظام المحاضرة وقواعدها في تنظيم الحديث والانصات، والسؤال والإجابة. 
&nbsp;
وهكذا تنبني ممارسة السلطة في التشكيل الاجتماعي على قدرة أطرافه على ممارسة الضبط الذاتي، وبذلك تتضح الصلة أو الاستمرارية بين مجالي السياسة والأخلاق، إذ أن الأمر يتعلق بعلاقات للسلطة يمارسها الفرد على نفسه (الأخلاق) وعلى الآخرين (السياسة) في آن.
&nbsp;
لا غرابة إذن أن جعل أرسطو الفرع الأول من العلوم العملية أو الفلسفة السياسية هو الأخلاق، ثم يتلوها الاقتصاد، ثم السياسة أو حكم المدينة؛ ولذلك كان كتابه في السياسة هو استمرار لكتابه في الأخلاق، ولم يقم بالفصل بينهما سوى من أتى بعد أرسطو من شرّاح.
&nbsp;
والدلالة على الالتزام الأخلاقي أو الضبط الذاتي من قبل الطالب هي ضغطه على زر Mute أثناء حضوره في التشكيل الاجتماعي للمحاضرة في حالة الوجود الافتراضي. ورغم أن دلالة ضغطة الزر ليست دلالة حقيقية على أي حضور فاعل أو التزام حقيقي للطالب، لأنها لا تعني سوى مجرد تسجيل الحضور الشكلي، إلا أن ضغطة الزر على الأقل تكفل الالتزام بالحد الأدنى من إجراءات الانضباط اللازم لأداء التشكيل الاجتماعي لوظيفته في التوجيه المعرفي.
&nbsp;
وتذهب وجهة النظر الأناركية إلى إمكانية الاستغناء عن الوازع الخارجي أو السلطة الخارجية، بسبب قدرة الأفراد على الضبط الذاتي بفضل طبيعتهم الخيرة. وفي مقابل ذلك، يرى الموقف الليبرالي أن السلطة الخارجية شر لا بد منه، لعدم قدرة الأفراد على الضبط الذاتي جراء طبيعتهم الشريرة بالأساس.
&nbsp;
وما حدث في موقف المحاضرة المشار إليه هو غياب الوازع الداخلي أو عدم قدرة الأطراف الداخلة في التشكيل الاجتماعي على الضبط الذاتي، مما أدى إلى عدم إمكانية ممارسة السلطة فيه، وبالتالي تعثر أدائه لوظيفته، وفي النهاية إنتهاء وجود التشكيل الاجتماعي.
&nbsp;
ولقد كان إنهاء الوجود للتشكيل الاجتماعي للمحاضرة هو الحل الذي اختاره كاتب هذه السطور للتخلص من تعرض السلطة لأزمة في حكم التشكيل. لكن المجتمعات الأوسع لا تدار بهذه الطريقة، وكان من الممكن اللجوء إلى الحل القائم في تلك المجتمعات، ويتعلق بتحويل جوهر الوازع الخارجي من علاقة سلطة إلى ممارسة عنف، بفرض الصمت الكامل من أعلى، وهو في حالة المحاضرة الضغط على زر&nbsp;Mute All&nbsp;من جانبي. ولكن ما حدث هو أنني لم أتمكن من اللجوء إلى هذا البديل الاستبدادي ليس تعففًا وإنما بسبب عدم تمكني من التعاطي مع وسائل التقنية الحديثة.
&nbsp;
انظر أيها القارئ كيف تتحول المشكلة السياسية إلى مشكلة تقنية تتعلق باستخدام وسائل فاعلة لفرض سيطرة طرف على آخر، بدلًا من أن تكون مشكلة سياسية تتعلق بتربية الطرف المحكوم وتمكينه من ضبط ذاته والتعاون مع الطرف الحاكم، فلا ممارسة لسلطة دون تعاون واع من المحكومين في فرضها على أنفسهم، وذلك في غياب الأساس الأخلاقي للوازع الخارجي.
&nbsp;
ويستفاد مما سلف أن المجتمعات، كتشكيلات اجتماعية أوسع، تعتمد طبيعة ممارسة الحكم فيها على درجة الالتزام الأخلاقي أو القدرة على الضبط الذاتي فيها. فالمجتمعات موفورة الصحة تميل الكفة فيها لصالح الوازع الداخلي على حساب الخارجي في عملية ممارسة السلطة، لقدرة أفرادها على ضبط أنفسهم. أما المجتمعات العليلة فتميل الكفة فيها لصالح الوازع الخارجي، الذي يأخذ شكل الصمت المطبق المفروض من أعلى، لعدم قدرة أفرادها على ضبط أنفسهم.
&nbsp;
وبذلك يصدق ما قاله أفلاطون الإلهي في&nbsp;الجمهورية&nbsp;من أن المستبد لم يغتصب السلطة أو يستولي على الحكم في المجتمع رغمًا عن إرادة أفراده، بل المستبد لا ينشأ إلا في مجتمع أفراده أنفسهم مستبدون، يَستبدون ويُستبد بهم، فيختارون أحدهم للاستبداد بهم.
&nbsp;
ورغم مظهر القوة والهيلمان الذي قد يبدو على المستبد إلا أنه، كما يرى أفلاطون، في منتهى الضعف فهو خاضع لنوازعه وأهوائه، ويفتقد إلى القدرة على ضبط ذاته لأنه عبد لها، أيا كان موقعه في هيراركية السلطة.
&nbsp;
إن كل من يسعى أو ينعق بفصل السياسة عن الأخلاق، تحت أي زعم أو دعوى، لا هو عرف الأخلاق ولا فقه السياسة، وهو يضرب بمعاول الهدم في كيان الوجود السياسي الذي يعيش فيه، أيًا ما يكون البلد الذي يعيش فيه.
&nbsp;
في الختام إذن يمكن القول أن جمال حمدان قد وضع يده بالفعل على أس المشكلة الأزلية للكيان السياسي (أي الاستبداد المفروض من الداخل أو الخارج)، لمصر ولغيرها من بلدان العالم، ألا وهو؛ الخلل المتأصل في الشخصية الجمعية الناجم عن غياب الوازع الأخلاقي، مما يفقدها القدرة على ضبط الذات، وبالتالي يفسد عليها أمر السياسة والحكم.
 ولم يكن على الإطلاق قاسيًا في حكمه، بل أصاب فقط موضع الألم من الجسد، ومن هنا ما يُظن من قسوة نقده وما يُظن أيضًا من تبسيط في تشخيصه وإلقائه اللوم على الضحية.
&nbsp;
والأمر ليس كذلك على الإطلاق، فطرفا معادلة الاستبداد، الأدنى والأعلى، شركاء متحالفون منذ البداية، والاختلاف بينهما كمي لا كيفي، كلاهما فاقد للسيطرة على نفسه ويطلق لها العنان فتستعبده، وهذا هو العقد الاجتماعي القائم بينهما، مهما تظاهرا بغير ذلك أو بدا للرائي خلافه.
&nbsp;
<div id="atatags-370373-62e7a1c0f0151" style="text-align: right;"></div>
<div id="atatags-26942-62e7a1c0f01b4" style="text-align: right;"></div>
<div id="jp-post-flair" class="sharedaddy sd-like-enabled sd-sharing-enabled">
<div class="sharedaddy sd-sharing-enabled" style="text-align: right;">&nbsp;</div>
</div>

Mute All وإشكالية الوازع الذاتي

أستاذ النظرية السياسية، باحث ومفكر ومترجم مسلم.

أ.د. محمد صُفار

الإله والإنسان: تحليل رواية (وجه الله) لمصطفى مستور
د. محمد صفار
&nbsp;
تهدف هذه الدراسة إلى استئناف ما قمتُ به في دراسات سابقة من اتخاذ الأعمال الأدبية كمادة غير تقليدية لدراسة الفكر السياسي والفلسفة. والأعمال الأدبية، بسبب تحررها من القيود الصارمة للمنهج العلمي، تجعل الأديب أكثر قدرة وأعمق نظراً فيتناول العديد من الظواهر، التي ربما لا يقدر الباحث العلمي على تناولها بإطلاق أو حتى بمثل هذا العمق. وبرغم ذلك إلا أن تحليل الأعمال الأدبية كمصدر غير تقليدي لدراسة الظواهر الفكرية، يفتح الباب أمام طرح إشكالية المنهج الملائم لأعمال فكرية، تتجاوز مستوى العقل، وتحلق في عالم الخيال، الفردي أو الجمعي، ومن ثم تتخلص من قيود المنهج. وتتسم هذه الإشكالية بالدور المنطقي لأنها تبحث عن المنهج المناسب لدراسة ظاهرة تنهض بشكل أساسي على التخلص من المنهج.
 لقراءة الورقة: <a style="color: rgb(52, 73, 94);" href="https://drive.google.com/file/d/1_XyL2c1TCRNU5Azej4Zvze8WBX-vhxAR/view?usp=sharing">رابط التحميل</a>

تحليل رواية «وجه الله» لمصطفى مستور

التصوف السلفي عند ابن قيم الجوزية
د. محمد صفار
الصورة النمطية للعلاقة بين الفقهاء والمتصوفة:
 تحت عنوان ثورة الصوفية على الفقه، يتناول الدكتور أبو العلا عفيفي الخلاف بين أنصار الشريعة وأنصار الحقيقة، ليؤكد بعبارة واضحة أن &laquo;الثورة التي قام بها الفقهاء ضد الصوفية [لم تكن] في الحقيقة إلا رد فعل للثورة الروحية التي أراد الصوفية أن يحدثوها في الدين&raquo;. ومرد ذلك الخلاف عنده هو تحول الدين على يد الفقهاء إلى رسوم وأشكال &laquo;لا حياة ولا روحانية فيها&raquo;، في حين كان المتصوفة يسعون وراء علم يسبر غور باطن الشرع، ويبحث في الأعمال الباطنية أو أعمال القلوب[1]. ويقررعفيفي أنه &laquo;كان من الطبيعي أن يحدث الصدام بين الطائفتين [أي الفقهاء والمتصوفة] لاختلافهما في الفكرة والمنهج والعاطفة&raquo;. ويستشهد على ذلك تاريخيا بمقاومة الإمام أحمد بن حنبل للتصوف، رغم ما كان يكنه من احترام لبعض المتصوفة كالحارث بن أسد المحاسبي. وقد واصل أتباع ابن حنبل الحملة على المتصوفة، وكانوا أشد كرها واضطهادا لهم من إمامهم[2]. 
 لقراءة الورقة: <a style="color: rgb(52, 73, 94);" href="https://drive.google.com/file/d/19pu8KiZvyHgCxAnokaKmmluK2frkb-Tg/view?usp=sharing">رابط التحميل</a> 
<div> <hr align="left" size="1" width="33%">
<div id="ftn1">
[1] د. أبو العلا عفيفي، التصوف: الثورة الروحية في الإسلام، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2013، ص118.
</div>
<div id="ftn2">
[2] المرجع السابق، ص117.
</div>
</div>

التصوف السلفي عند ابن قيم الجوزية

الأفغاني والعصبية الخلدونية:
درس في إعادة بناء المفاهيم
&nbsp;
يكاد يستحيل حصر من قاموا بدراسة العلامة ابن خلدون من المتقدمين أو المتأخرين، من عرب أو عجم، فقد كانت مقدمة &laquo;كتاب العبر&raquo; من النصوص التأسيسية في الحضارة الإنسانية. ورغم اتساع نطاق الفكر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الخلدوني، وما يزخر به من مفاهيم وموضوعات وإشكالات، إلا أن وحدة التحليل المركزية في نسقه الفكري قد اجتذبت اهتماما خاصا للقاصي والداني. والحق أن المرء لا يستطيع أن يدلف إلى المقدمة من أي باب من دون أن يصطدم بالعصبية ومنطقها وأطوارها، حتى أن قراءة المقدمة بالاستناد إلى وضع العصبية بين قوسين أو تهميشها، ستغدو تدريبا ذهنيا في منتهى الأهمية لقارئ ابن خلدون.
وقد كان السيد جمال الدين الشهير بالأفغاني من أبرز من قرأوا المقدمة، وتأثروا بفكر ابن خلدون، وتناولوا هذا الفكر بالتدقيق والتمحيص، خذ مثلا ما ورد في خاطرات الأفغاني من تفنيده لأدلة ابن خلدون بشأن مسألة في صناعة الكيمياء. ورغم شدة هامشية تلك المسألة، إلا أن هامشيتها تلك لتدل على عمق قراءة الأفغاني لمتن المقدمة؛ فقد تفحص نصوصها بعناية حتى استبانت له أوجه القصور في رأي ابن خلدون بصدد بعض الأمور. وكان الأفغاني قد أخذ على ابن خلدون إنكاره لعلم الكيمياء وتصديقه في بعض أمور السحر، إلا أنه يختم حديثه عن تلك المسألة رغم ذلك بامتداح الرجل لغزارة علمه ودقة نظره. بل إنه ليقول نصا فيمن يعتبره من مفاخر الأمة، &laquo;فالعَالَمُ عالة على فضل ابن خلدون في حكمة التاريخ؛ إذ هو الواضع لها ولا منازع&raquo;.
&nbsp;
قراءة الورقة: <a style="color: rgb(44, 44, 44);" href="https://drive.google.com/file/d/1nYk1SF9eWQhbwsBKBEE7svMcR7Lhex9L/view?usp=sharing">رابط التحميل</a>

أ.د. محمد صُفار

تأسيس علم السياسة

أ.د. محمد صُفار

عبيد الدار

أ.د. محمد صُفار

الفلسفة السياسية عند السيد جمال الدين

أ.د. محمد صُفار

Mute All وإشكالية الوازع الذاتي

أ.د. محمد صُفار

تحليل رواية «وجه الله» لمصطفى مستور

أ.د. محمد صُفار

التصوف السلفي عند ابن قيم الجوزية

أ.د. محمد صُفار

الأفغاني والعصبية الخلدونية: درس في إعادة بناء المفاهيم

أ.د. محمد صُفار