الإنسان المقاوم

ما عاد الإنسان مهيمنًا على تصوراته الخاصة وعلى طريقة فهم ما يحدث له على مستوى تغير منظومة قيمه وبالتالي سلوكه، ذلك أن الحياة الحديثة تصر على أن تجعله في حالة من الفوضى الذهنية وموت التدبر، وأقصى ما تقدمه له هو التأمل الفارغ الذي تمليه فلسفة شرقية وضعت في إناء الحضارة الغربية لتقدم كمسكن لحظي وجودي لهذا الإنسان البائس.
&nbsp;
إن إنسان اليوم لم يعد قادراً على إيقاف سيل البيانات والمعلومات التي تأتي بأشكال متعددة عبر الحواس الخمس فأصبح مصباً عشوائياً للبيانات والمعارف والعلوم ولطوفان من المثيرات والمنبهات التي تربك إدراكه وفهمه إضافة للمشاعر المتصارعة التي تولدها تلك الحالة، وبالتالي انطباع نوع من المعاني داخل نفسه تقوده نحو شعور معين ومن ثم سلوك متأثر به، وتركها هكذا دون تمحيص وتفتيش وغربلة، مدعاة لغرق النفس، فلا تعود قادرة على التأمل و التبصر والتفكر، لتدخل كهف الغفلة والسير في ظلام يزداد اسوداداً مع الأيام.
&nbsp;
أول ما يجنيه الإنسان المؤمن جراء تلك الغفلة نقصان الإيمان المركب المكون من عقيدة القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح (1)، ثم اختلال في مكارم الأخلاق، ثم الهبوط لمنزلة الإنسان الفارغ فالضائع، وهو في أحواله كلها بين ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات. قال ربنا ( ثمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) سورة فاطر آية (32).
&nbsp;
فهل من سبيل للخروج من هذا المأزق الجديد الذي يلقي بظلاله على الإنسان أينما حل؟
&nbsp;
فصل بعض الباحثين القول في مفاهيم متعددة تعمل عملها بشكل مستمر داخل النفس البشرية كالنظر والتبصر والتفكر والتدبر والتأمل، ومثل هذه المباحث تعجبني كثيراً إذ أنها تنير لي بعض تأملاتي فيما يتعلق بشأن مفهوم الإنسان المدرك الذي يستطيع معالجة المعطيات من خلال قوة وبراعة استخدامه لتلك الأدوات التي ذكرت آنفاً واقعاً عملياً لا مفهوما تنظيريًا.
&nbsp;
لكل إنسان جهازه المفاهيمي/الإدراكي(2) الذي يسير من خلاله في دروب الحياة وأزقتها، ولهذا الجهاز ثقله وخطورته في تحديد نمط العيش والتعايش، معقد رغم بساطته وعميق رغم سطحيته، كيف ذلك؟
&nbsp;
لو حاولنا تفكيكه لوجدناه على النحو التالي : اللغة و الذاكرة-الإنسان ابن ذاكرته الظاهرة والباطنة- و المعرفة و العمليات الذهنية والمشاعر والأحاسيس والانتباه والخيال و كيمياء الدماغ والفطرة والدوافع الأساسية الخوف و الرغبة والشهوة و تراتبية القيم وقبل ذلك كله تصوره الفكري العام للحياة، تلك أهم أداوت إدراكنا التي نفهم ونفسر من خلالها المدخلات بكل أشكالها وأنواعها عابرين بذلك الفهم نحو سلوك معين وحالة نفسية معينة، أضف لذلك كله حكمة يودعها الله بقدر متفاوت بين الناس، قد تمنح هبة وقد تتطلب طلبة أحياناً، وثمة وحي من الله على عباده الذين اختار لهم ذلك من غير الأنبياء، قال ربنا (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) ذلك الوحي هو قذف في القلب لا علاقة له بقدرات الإنسان، وقدرتنا على فهم طريقة عمل هذه المكونات قد تقودنا للتحكم فيها وتحسينها حال احتياجها، وسيكون ذلك من خلال المراقبة الدقيقة لهذه العمليات البديهية ابتداء، ثم تتبع نتائجها المتكررة، وهل كانت تؤدي إلى التعقل القادر على التمحيص والتفريق بين الحق والباطل والخير والشر والضار والنافع، وما يمكن أن يخاتل القلب والعقل معاً.
&nbsp;
لن يكون ذلك التبصر صعب المنال إذ يقول الله (بَلِ الْإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، إذن لديه القدرة على التبصر بنفسه إن أراد ذلك، ولكن يجب أن نفهم أن إدراكنا لن يكون هو الواقع الخارجي بالضرورة، وقد ذكرت ذلك إحدى المهتمات بفلسفة الإدراك حين سئلت عن الإدراك هل هو الواقع الخارجي؟ فقالت:
&nbsp;
&laquo;لا، الإدراك ليس هو الواقع. الواقع يتفلّت على الإدراك. بغض النظر عن مقدار العمل الفكري الذي تقوم به، أو القراءة أو الخبرة أو التواصل، فلن تحصل على الصورة الكاملة أبدًا، ولهذا السبب يوجد الكثير من الكتب في المكتبة. الحقيقة المحزنة أنك لن تقرأها كلها أبدًا، لكنها هناك، ويصور بعضها جوانب من الواقع لا يمكنك معرفتها. النتيجة؟ في كل من الحياة الفكرية والسياسة، يجب أن يكون موقفنا الأساسي هو التواضع بشأن وجهات نَظَرِنَا&raquo;.
&nbsp;
وإن كان حديثها في نهايته متجهاً للحياة الفكرية والسياسية إلا أنه يمكننا إسقاطه على الحياة الشخصية. وقد شرق الفلاسفة وغربوا كثيراً في فلسفة الإدراك مما زاد المصطلح تعقيداً وغموضا، وما زال محل اجتهاد لمن أراد أن يجتهد.
&nbsp;
بناءً على ما سبق؛ يمكنني القول أن الخروج من ذلك المأزق يكون من خلال بلوغ درجة &laquo;الإنسان المتعقل&raquo; (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) سورة الحج (46)، ذلك الذي يبصر الأشياء من حوله بنور الإيمان -القلب الفقيه-.
&nbsp;
ينقل الدكتور بليل عبدالكريم في مبحث بديع له: &laquo;﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179] عن أحد المفسرين: يراد بالقلوب هنا القوى الداخلية في الإنسان، المخلوقة للفهم وللحفظ وللتذكر، بتخزين صور الأشياء وقضايا المعرفة كلياتها وجزئياتها، ولتخيل صور ومركبات غير مشهودة، للإبداع والابتكار، ولإدراك المعاني والبحث عن حقائق الأشياء.
&nbsp;
وفي هذه القوى الداخلية المعرفية والإدراكية موازين فكرية؛ مؤهلة بالتكوين الرباني؛ الذي فطر الله عليه للتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر، ولقياس الأشباه والنظائر، والحكم على الغائب منها بمثل المشهود منها، وللاعتبار والاستدلال، والفهم والموازنة والحكم، حتى لا تسقط الإرادة فريسة الأهواء والشهوات&raquo;.
&nbsp;
ما أستطيع قوله في نهاية المقالة، أن الإنسان مطالب بالسعي نحو درجة &laquo;الإنسان المتعقل&raquo;،
&nbsp;
ولكن يبقى السؤال المهم، كيف له أن يبلغ تلك الدرجة؟
&nbsp;
هامش:
(1): ذكر هذا التكوين الشيخ بن عثيمين رحمه الله. (2): التعريف الشامل للإدراك فه: عمليةٌ عقليةٌ نفسيةٌ، تساعد الإنسان على معرفة عالمه الخارجي، والوصول إلى معاني ودلالات الأشياء، وذلك عن طريق تنظيم المثيرات الحسية، لتفسيرها وصياغتها في كليات ذات معنى.

أحمد العسيلان

الإنسان المقاوم

أحمد العسيلان

الإنسان المتعقل

أحمد العسيلان