في صباحِ التّاسع من أغسطس، قبل سبعٍ وسبعين سنة، أسقَطت الولايات المتحدة الأميركية قنبلةً ذريّة على ناجازاكي، اليابان، ودوّت أجهزة إنذار الغارات الجويّة مبكرًا، لكنّ مثل هذه الإنذاراتِ في بلدٍ تُقصف ليل نهارٍ لأشهرٍ لم تكن ذات بالٍ كبير، ولم يكن هناك دافع للظّنِّ في أن هذا الصباح سيكون مختلفًا.
&nbsp;
في ذلك اليوم، غادرتْ قاعدة تينيان الجوية القاذفتان العملاقتان من طراز ب-29 سوبر فورتيرس -كما تمَّ تسميتهم-، ووصلت إلى كوكورا في 9:50 صباحًا، حيث كانَ الغطاء السحابي سميكًا جدًا لإسقاط القنبلة، فغيّرت الطائرات وجهتها للهدف الثّاني، ناجازاكي، حيث كانت الرؤية منخفضة أيضًا بسبب الغيوم الكثيفة، لكن زوال حجاب السحب للحظاتٍ، كان كافيا لإسقاط قنبلة &laquo;فات بوي&raquo;، في الساعة 11:02 صباحًا، حيث قُتل قرابة 40,000 شخص بعد لحظاتٍ منَ التّفجير، وخلال الخمسة إلى ستة أشهر التالية مات قرابة 30,000 آخرون متأثرين بإصاباتهم؛ واستمرَّ عدد الضحايا في تزايدٍ على مر السنين، البعض استسلمَ لإصابته، والبعض الآخر استسلم للإشعاع الزاحف. وكانت حصيلة بضعِ سنواتٍ تٌقدّر على الأقل بـ 100,000 شخص ماتوا نتيجةَ القصف، ودُمّرت حوالي 90%؜ من البنايات داخل 2,5 كيلو متر، أي نصف قطر من مركز الانفجار النووي، وفي اليوم التّالي منَ الانفجار، في العاشر من أغسطس، نقلت الحكومة اليابانية تنازلها لقوات الحلفاء بعد قرارٍ منَ الامبراطور، رغم أن الإصرار على التنازل كان غير مشروطٍ، ظلّ عائقًا لعدة أيام، وأعلنَ الإمبراطور هيروهيتو استسلامَ اليابان عبر الموجات الهوائية (الراديو). وفي الثاني من أيلول، وقّع وزير الخارجية الياباني على وثيقة الاستسلام، وتمّ إنهاء الأعمال العدائية في الحرب العالمية الثانية رسميًا.
&nbsp;
أما من ناحية المقارنة، فإن القصف النووي لناجازاكي، لم يتم الاستطلاع عليه كثيرًا، وكان أقل انتشارًا وإحياءً من ذكرى قصف هيروشيما الّذي سبقه بثلاثة أيّام؛ وذلك أنَّ هيروشيما الوحيدة قد أدخلت البشرية في العصر النّووي، وأودت بالإنسانية إلى أعلى مستويات الهمجية، فالقنبلة التي أُسقطت على هيروشيما، قتلت 70,000 شخص على الفور لحظةَ وقوعِ الانفجار، ودُمّرت المدينة تمامًا، وتحولت إلى مقبرة جماعية، وما بقي من صور فوتوغرافية تحكي نفس القصة، لكن بتعابير مختلفة.
&nbsp;
ومن أشكال الهمجيّة، هناك صورة لطفلة صغيرة خرجت عيناها من تجويفِهما إثر الضوء الساطع المنبعث من الانفجار، وصورٌ لآلاف من الناس كانوا عراة؛ لشدة الحرارة والكرات النارية التي جردتهم من ملابسهم، وكان على ظهر امرأة نمط الكيمونو منقوشٌ على لحمها!
&nbsp;
نوع آخر من الهمجية، هوَ ما عبّر عنهُ ضابط عسكري أمريكي في ذلك الوقت: &laquo;جميع سكان اليابان هدف عسكري مناسب&raquo;، كانَ أقل من 250 شخص من الذين قُتلوا في هيروشيما كانوا من الجنود، أمّا أهداف القوت الأمريكية فكانت تتجه صوب المدنيين: كبار السن، والنساء، والأطفال، والرجال اليابانيون الّذين بلغوا سنَّ القتال، وتركوا المدينة للخدمة في القوات المسلحة، أو خدمات المساعدة.
&nbsp;
ولا يزال الأمريكيون يواصلون الدّفاع عن التفجيرات، وقد أجرى مركز بيو للأبحاث -أواخر عام 2015م، أي بعد سبعين عامًا من التفجيرات-، استطلاعا يشير إلى أن 56% من الأمريكيين يؤيّدون التّفجيرات الذرية، و10% منهم متردّدون، وثمّة العديد من الحجج قُدمّت للدفاع عن استخدام القنبلة، فبعض المعلّقين يلجؤون الحجة؛ ففي ظروف &laquo;الحرب الشاملة&raquo; لا شيء غير مسموح به، ونظرًا لما تحمله هذه الحجة من قساوة وعدم رحمة، البعض يفضل التحدث عن &laquo;الضرورة العسكرية&raquo;، ويتوقف الدفاع غالبا عن التفجيرات حول رفض اليابان للاستسلام وفقًا للشروط التي من حق الأمريكيين فرضها، ومع كلّ ذلك، هناك ادّعاء أساسي يستند إليه مؤيدو التفجيرات: حجة القصف الذري أنقذ الأرواح.
&nbsp;
نستطيع جميعًا تصور السيناريوهات؛ لكي يُحافظ المرء على الأرواح، عليهِ إزهاقُ أرواحٍ أخرى، ولولا استخدام القنابل، لقام الأمريكيين بغزوٍ برّي، ولأُقحموا في مواجهةٍ شرسةٍ، مثل معركة إيواجيما، حيث كان اليابانيون مستعدين للدّفاع عن بلادِهم حتّى آخر رجل، وربما آخر امرأة وطفل موجود، وكان سيُقتل عشراتُ الآلاف من الجنود الأمريكيون.
&nbsp;
أتباع هذا الرأي، يدركون أنَّ الأمريكيين هم ليسوا الأشخاص الوحيدين الذين يستحقون أن يُنظر إليهم على أنهم &laquo;بشر&raquo;، فيصِرُّونَ على التّذكير بأنَّ مئات الآلاف من المدنيين اليابانيين سيُقتلون أيضا، وليس فقط الأمريكيون، والأرواح الّتي تم إنقاذها عندما قررت الولايات المتحدة إطلاق الدّمار على نطاقٍ واسعٍ، لم يبقَ له مثيل في التّاريخ..
&nbsp;
صرّح الرئيس ترومان في 11 أغسطس: أنّ حماية أرواح اليابانيين لم تكن في أذهان المخططين العسكريين، أو حتى العلماء المكلفين بمشروع مانهاتن، فـ&laquo;اللغة الوحيدة التي يفهمها اليابانيون يبدو أنَّها هيَ التي استخدمناها لقصفِهِم، فعندما تضطر للتّعامل مع وحش، يجب معاملته كالوحش، يبدو أمرًا صحيحًا، لكنّه مؤسف للغاية&raquo;.
&nbsp;
اليابانيون تم تجريدهم من إنسانيتهم تمامًا بدون شك، ففي الحربِ ضدّ ألمانيا، أوضحت الولايات المتحدة أنَّ النَّازيِّين، وليس الألمان العاديين، هم الأعداء، وبالمقابِل لم يكن هنالك تمييزٌ في الحرب ضدّ اليابان، إذ رأى المخططون العسكريون، ومعظم الأمريكيين، أنهم في حربٍ مع اليابانيين، وليس فقط ضدّ القيادة اليابانية، وتكمن السخرية العنصرية ضد اليابان في عددٍ كبير من الرسوم الكاريكاتورية، والكتابات، والوثائق الرَّسمية، وفي الآراء المعلنة منَ الأشخاص في المناصب الحكوميّة والمجتمع الأمريكي، فرئيس لجنة القوة العاملة بول ڤ-ماكنوت، &laquo;فضّل إبادة اليابانيين بالكامل&raquo;، صرّح نائب الرّئيس، أنَّ إليوت، نجل الرئيس فرانكلين روزفلت، يؤيّد استمرار الحرب ضد اليابان، &laquo;حتى نُدمّر حوالي نصف السُّكان المدنيين&laquo;.
&nbsp;
ومع ذلك، &rlm;هل من الممكن القول إن حادثة ناجازاكي كانت أكبر جرمًا من هيروشيما؟ لماذا كان على الأمريكيين إلقاء قنبلة ثانية؟ لماذا لم ينتظروا بضعة أيام أخرى حتى تستسلم اليابان؟ المدافعون عن تفجير ناجازاكي، يرونَ أنَّ عدم استسلامِ اليابانيين على الفور بعد قصف هيروشيما، جعل الأمريكيين يظنّون أن اليابانيين مصرينَ على مواصلة القتال، ربّما كان يعتقد اليابانيون أنّ الولايات المتحدة كانت تمتلك قنبلة واحدة فقط! والبعض يرى أنَّ الاستسلام لم يكن خيارا لدى اليابانيين أبدا؛ لأن ثقافة المحارب كانت منتشرة، والثقافة الشرقية -أيضًا- لا تسمح بهذه النهاية الذّليلة، في الجانب الآخر، قيل إنه كان لدى المخطِّطين العسكريين الأمريكيين لعبة، وما فائدة هذه اللعبة إذا لم تُستخدم؟!
&nbsp;
وكما أرى، ويعتقدُ آخرون من قبلي في هذا الأمر، إنّ القصد من التفجيرات الذريّة لم يكن حث اليابان على الاستسلام فقط، بل كانت الولايات المتحدة تحضّر من أجل الحرب التالية ضدّ عدوّها اللّدود، الاتّحاد السوڤييتي، فاليابان كانت في ذلك الوقت قوة مهلكة تمامًا، وكانت في الواقع ذات أهمية قليلة نسبيًا للأمريكيين، يقول اللفتنانت جنرال ليزي غروفز، مدير المشروع: &laquo;منذ أسبوعين، الوقت الذي توليت فيه هذا المشروع، لم يكن هنالك أبدًا أيّ انخداع من جانبي، فروسيا كانت عدوَّنا، وتم تنفيذ المشروع على هذا الأساس&raquo;.
&nbsp;
كان من الضروري إبلاغ ستالين، أنّ الولايات المتّحدة لن تسمح للاتّحاد السوڤييتي بنشر سم الشُّيوعية في العالم، والسعي للهيمنة عليه، كما قال جيمس بيرنز وزير الخارجية: &laquo;إنّ إظهار القنبلة قد يذهل روسيا بالقوة العسكرية الأمريكية&raquo;.
&nbsp;
من خلالِ هيروشيما وناجازاكي، سعت الولايات المتحدة إلى توجيه ضربة واحدة لإسقاط اليابان، ولإبلاغ الاتحاد السوڤييتي أنَّ الولايات المتحدة مستعدة لممارسة قوتها الواضحة باعتبارها الدولة الوحيدة في العالم التي لا غنى عنها.
&nbsp;
قال جون دالبيرج آكتون (اللورد آكتون): &laquo;السلطة مفسدة، السلطة المطلقة تُفسد&laquo;
&nbsp;
<hr>
<div style="mso-element: para-border-div; border: none; border-bottom: solid #4F81BD 1.0pt; mso-border-bottom-themecolor: accent1; padding: 0cm 0cm 4.0pt 0cm;">
نُشر لأول مرة تحت نفس العنوان في&nbsp; abplive.in
في 9 أغسطس 2022
</div>

وقفة لفهم جريمة ناجازاكي

أ.د. فيناي لال

يتناول المتحدث ثلاث أفكار رئيسي; أولاما جنته نشأة الدولة القومية على البشر والحضارات، وعلاقة الدولة القومية بالقهر والاضطهاد والعنف وسرقة المستقبل.
ثانيا: التنمية ومشاريع التنمية وتأثيرها على السكان المهمشين بالبلاد النامية.
ثالثا: إشكالية التاريخ الموحد خصوصا والمناهج العلمية الموحدة عموما.

أ.د. فيناي لال

وقفة لفهم جريمة ناجازاكي

أ.د. فيناي لال

الإمبريالية الأكاديمية: إعادة التفكير في المعرفة الاستعمارية

أ.د. فيناي لال