على شاطئ البسفور فيما يلي قصر يلدز، تكية صغيرة، تضم اليوم مسجدًا وضريحًا تُحَيّيه السفن والبحارة كلما مرت به. وهو أحد أربعة أضرحة تحرس المدينة وفق الاعتقاد السائد.
في الساحة يلف الهدوء المكان، إلا من أصوات السفن والنوارس.
&nbsp;
اخلع نعليك وسلم على شاعر صوفي، رقيق عاش في زمن السلطان سليمان القانوني، وهو أيضا أخوه في الرضاعة وصاحبه، كان يسكن هذه التكية التي اشتراها بعد تقاعده من حر ماله، وجعلها خلوة له ولأهل العرفان. ولما توفي، دفن في جامع السليمانية، قبل أن ينقل بأمر السلطان سليم الثاني إلى تكيته، لتتحول بعد ذلك إلى ضريح. 
&nbsp;
أمام هذا الضريح، كان المشهد مهيباً في الثالث عشر من أكتوبر عام 1895م. فرقتان من الخيالة، تتقدم نعشا على عربة تجرها الخيول. الصمت، وحفيف الأشجار، ونحيب الرجال المكتوم يخالط أصوات النوارس والغربان. تصل إلى الجنازة إلى قصر جراغان، تقف الخيالة على الناصية وتنعطف العربة في طريق صغير، وتتوقف. يتقدم الداخلين إلى المقبرة، السيد جمال الدين الأفغاني وعدد من الرجال، بينما ينزل الجنود الجسد المسجى إلى مثواه الأخير. يقف الأفغاني برهة على القبر، يدعو لصاحبه، ثم يلتفت ليخرج من المقبرة، ليقف خطيباً فيمن حضر، وكان مما قال:
&nbsp;
ينتهي ذكر أناس بانتهاء حياتهم، لكن هذا الرجل &laquo;عبد الله النديم&raquo; الذي نقف على قبره الآن، كان من عجائب زمانه، رحمه الله، لقد كان مصريًا خالصًا، عاش لمبادئه، ووهب حياته لأمته
&nbsp;
لم تبدأ علاقة النديم بالأفغاني في إسطنبول، وإن جمع بينهما المنفى. كان النديم شابًا، يحمل أحلامه حين قامت في مصر ثورة، في فترة هامة من تاريخ العالم كله، ومن تاريخ مصر خاصة، مثلت نافذة للشخصية المصرية لتعبر عن نفسها جماهيرياً، وفكرياً. صادفت هذه الثورة، ثورة داخلية لفتى تسير نفسه إلى الشباب، متمردًا على محيطه، باحثًا عن ذاته، مغامرًا لا يمانع في ترك قريته ليتلمس طريقه في مدن قريبة سعيًا إلى القاهرة المتلألئة بالأفكار آنذاك. يجمعه القدر بقائد الثورة، فتنتظم نفسه الباحثة عن جوهرها في نسق الثورة، وتتغير حياته، ولا يمانع أن يغير اسم جريدته نفسها نزولاً على طلب القائد الذي آمن به سعيًا لتحقيق المراد. كانت لغة النديم التي اختارها للكتابة، لغة شعبية خفيفة، قال عنها بأنه &laquo;لا يريد أن تكون ممتنعة بمجازات واستعارات ولا مزخرفة بتورية واستخدام ولا مفتخرة لفخامة لفظ وبلاغة ولكن أحاديث تعودناها ولغة ألفنا المسامرة بها&laquo;.
&nbsp;
لم يكن النديم في بداية سماعه بعرابي مقبلاً عليه أول الأمر، فالرجل الذي خرج من أزقة الإسكندرية، ينفر من السلطة ومن عسكرها، وليس عرابي سوى واحد من عسكر الدولة. ويقول:
&nbsp;
 إن البلاد إنما ضاعت بتهور رؤساء الجند الذين خدعونا في مبدأ الحادثة، وأوهمونا أن لا خوف من العاقبة ولا فزع، لكنها كانت المؤسسة الوحيدة التي لم يتغلل فيها الأجانب بعد، وعماد بنائها هم المصريون، ومع تطور الأحداث انخرط النديم في الثورة وهو من خارج &laquo;الجهادية&raquo;، لكن دخوله فيها غير مسارها. فثورة الجند الآن تتحول إلى حركة شعبية، لتكون ذروتها في مظاهرة عابدين عام 1881م.
&nbsp;
لكن الثورة التي لم تكن قد اكتملت أدواتها تعصف بها رياح السياسية والاستعمار، ويجد رموزها أنفسهم أسرى أو منفيين، ويجد النديم نفسه هاربًا لا تتمكن منه الدولة، ولا يُمكن نفسه منها، ويرحل متخفيًا في مغامرة بديعة التفاصيل تستمر تسع سنوات في ربوع مصر، يساعده في ذلك جهاز من الوطنيين الأشراف، يعينوه، ويوصلوا له الكتب، ويبلغوا عنه رسائله.
&nbsp;
عمدة في الريف يحميه، يتزوج ويحتال حيلاً بالغة الطرافة ليهرب من عيون السلطة، لكن الحيل التي نجدها اليوم طريفة، أخذت من صحته ومن نفسه، شهورًا يجد نفسه محبوسًا في قبو مع دخان المصباح، الذي يرجوه خادمه أن يطفأه، وأن يتوقف عن الكتابة، فنحن مطاردون، تتبعنا العيون، فيجيبه: بأنني التزمت صرف أوقاتي في كتابة ما يكون مفيدًا لإخواني ولن يصرفني سوء الأخبار عن حب الكتابة والخدمة والعامة.
&nbsp;
كانت شخصية النديم مختلفة عن مصلحي زمانه، فلم يكن ابناً من أبناء الطبقة الارستقراطية، ولا خريجًا من مدارس أجنبية، بل لم يكن يتحدث لغة أجنبية بالأساس. إنما نشأ في الإسكندرية في بيت بسيط بحي الجمرك، لأب يعمل خبازًا، لا تتيح له قدرته المالية أن يرسله إلى الأزهر ليتعلم، فاكتفى بإرساله إلى الجامع الأنور الذي بناه إبراهيم باشا. لكن شيئًا آخر هو ما شغف به النديم في طفولته، الحكاية والأخبار والأدب.
&nbsp;
وهذه الثلاثة لا تسكن جدران المدارس ولا المساجد، إنما وجدها مبثوثة في الأسواق والمقاهي، ومع الحكائين. والأب الكاد، لا يرضى بذلك، فيهيم الفتى في البلاد. 
&nbsp;
كانت البلاد آنذاك، تعاني آثار حكم إسماعيل، الأجانب يملؤونها استغلالاً، والفكر يتدفق بين مثقفيها، والفتى يجد عملا في هيئة التلغراف.. إنها فرصة للوقوف على الأخبار قبل أن تطير إلى وجهتها. يأخذه التلغراف إلى القاهرة، وهناك يلتقي بجمال الدين الأفغاني. ثائر من الشرق، يبث أفكاره في أمة كانت جذوة الوطنية متقدة فيها، مستعدة لتلبية أول نداء للحرية والثورة، كما قال عبد الرحمن الرافعي. الأفغاني، يشجع مريديه على الكتابة في الصحف، الوسيط الشعبي للمثقفين آنذاك.
&nbsp;
يجد النديم في مجلس الأفغاني ضالته، فيأنس إليه، ويطيل المكث عنده، بل ويغار من إقبال الأفغاني على محمد عبده، فيمازحه مرة ويقول:&nbsp;أيها السيد، ما غفلت مرة عن إضافة لقب الصديق إلى الشيخ كأنه لم يكن لك بين الناس صديق غيره، فيتبسم جمال الدين ويقول له: وأنت يا عبد الله صديقي، ولكن الفرق بينك وبين الشيخ محمد عبده، أنه كان صديقي على الضراء، وأنت صديقي في السراء.
&nbsp;
لكن السنين التي ستمر، ستجمعهما فيما بعد، في إسطنبول، ليكون صديقه في المنفى أيضا كما كان في القاهرة، وليقف معه أمام وشاية كادت تودي به. من أحد رجال الدين القريبين من السلطان عبد الحميد.
&nbsp;
عاش النديم في المنفى معطل المواهب، فلا خطابة ولا كتابة ولا تنشيط للأفكار، ولا تحميس لأحد، ولم يكن له سلوى في منفاه إلا حوارته مع الأفغاني، الذي توسط له عند السلطان فعينه مفتشاً في دار المطبوعات. الرجل الذي بدأ حياته قلمًا حراً، يحتال على الرقباء والمفتشين، يعمل اليوم مفتشاً على المطبوعات في عاصمة الخلافة، لكنه في الحقيقة لم يمارس هذا العمل، إنما كان منصباً يتقاضى منه أجراً كريماً من الدولة، ولم هبعتله رأيك بردهتوقف الحكومة المصرية معاشه فيها أيضًا، غير أنه كان ينفق هذا كله على أهله في مصر وعلى مرافقيه في الأستانة.
&nbsp;
مضى الحال على ما ذكرنا، بين نقاش وحوار، ووساطة للخديوي عباس(1)، وكانت بينه وبين الأفغاني والنديم صلة سابقة إبان حكم أبيه توفيق، حتى كانت زيارة للخديوي لإسطنبول، عام&nbsp;١٨٩٤م، والتي طلب الخديوي فيها من النديم التوسط له في مصاهرة إحدى بنات الخلافة.
&nbsp;
&nbsp;
من رجال الدولة المقربين من السلطان، رجل يعرف بأبي الهدى الصيادي، كان كما تذكر المصادر وضيع الأصل، واسع الحيلة، ذكياً، استطاع أن يتقرب من السلطان، فأخبره بلقاء الخديوي بالنديم والأفغاني، في منتزه كاغد خانة، وبايعاه تحت الشجرة، لإعلان خلافة عباسية تكون له في مصر. فلما سأل السلطان جمال الدين: أتريد أن تجعلها عباسية، فأجابه إن بنو العباس قد انقرضوا، وبنو علي بها أولى! ثم قال له:&nbsp;وهل هي خاتم بيدي أضعها في أي إصبع شئت!
&nbsp;
في زيارة الخديوي للأستانة عام&nbsp;١٨٩٥م&nbsp;رجاه النديم أن يعود إلى مصر، لشدة حنينه لها وشوقه إليها ورغبته أن يقضي ما بقي من حياته فيها، فأذن له، ولما تحركت السفينة من الميناء وكادت تخرج من الدردنيل، كان أبو الهدى الذي أوقع بينه وبين السلطان الوقيعة الأولي، قد طار بالخبر للسلطان وأخبره أن المؤامرة التي نسجت تحت شجرة كاغد خانة قد بدأ تنفيذها.
&nbsp;
أوقفت السفينة، وأنزل النديم بأمر السلطان، الذي كان قد أصدر أمرا بنفيه في إحدى جزر الدولة العثمانية، كيلا يتصل بأحد.
&nbsp;
لف الحزن قلب الرجل الذي تجاوز الخمسين من عمره، وثقل عليه المرض، وكتب للسلطان معاتباً، متبرئاً مما نسب إليه، مذكراً إياه أنهما سيقفان معاً أمام الله القاهر، فعفا عنه وأعاده إلى إسطنبول، التي لم يطل مقامه فيها هذه المرة، لتدركه المنية، ويدفن إلى جوار يحيى أفندي.
&nbsp;
صحيح أن النديم قد ترك التعليم في الجامع الأنور، لكنه كان صاحب أول دعوة في تأسيس المدارس والجمعيات الأهلية، فتولى جمع المال من الأعيان، حتى نجح في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية عام ١٨٧٩م بأموال المصريين، وبهدف تربية الناشئة وبث روح المعارف فيهم لترقية أفكارهم وتطهير أخلاقهم وبث روح الوطنية في نفوسهم.
&nbsp;
قرنت الجمعية العزم بالفعل، وأنشأت مدرسة للبنين والبنات.. وفي حفل افتتاح المدارس قال: افتتحنا هذه المدرسة بلا كره ولا قرض، وأعددنا لها من المعارف ما يقوم بالواجب والغرض للفقراء. ولعل ما انتظر في مصر من ثقافة الجمعيات الأهلية الخيرية منذ ذلك التاريخ إلى يومنا الحاضر ليس سوى ثمرة من ثمرات النديم، الخطيب الذي حول ثورة عرابي بلسانه إلى حركة شعبية، وأيقظت خطبه روح الوطنية وحلم الاستقلال فيما بعد. كان الشعب هو من يهتم به النديم، وما اختار اللسان العامي إلا ليصل إليهم، كان جهده وجهاده مباركاً، وكان يرى في الحرية من الاستبداد والاستعمار قيمة كبرى، حتى قال &laquo;إن عز الاستقلال بالوطنية، خير من الإذلال ولو كان بجامعة الدين&laquo;.
&nbsp;
كان النديم مصرياً، مسلماً، عارفاً بما للخلافة من مقام وقدر، لكن كان حراً، مؤمناً بشعبه، مقبلاً عليهم أكثر من إقباله على بهرج السلطة وإفسادها. فمن زار بشكتاش، فلا يمر بها دون أن يقرأ الفاتحة لثائر منفي، قد تلطف به الزمان، فنفى حوله من أهل بلده من يواسونه في 
غربته.
&nbsp;
[*]: عبدالله النديم: أديب وكاتب مصري، من أبرز خطباء الثورة العرابية، أعلن جهاده الوطني من خلال جريدته &laquo;اللطائف&raquo;. استطاع مراوغة الحكومة المصرية عدة سنوات قبل القبض عليه ونفيه خارج البلاد.
&nbsp;
(1): الخديوي عباس حلمي الثاني، آخر خديوي لمصر والسودان. بدأ حكمه&nbsp;1892م. حاول مقارعة الاحتلال الانجليزي على عدة جبهات. عُزل وهو خارج البلاد عام&nbsp;1914م. هتف بعدها المصريون (عباس جاي) في محاولة لبسط السيادة المصرية من خلال رمزيته.
<div id="atatags-370373-62e95ea46337b" style="text-align: right;"></div>
<div id="atatags-26942-62e95ea4633fa" style="text-align: right;"></div>
<div id="jp-post-flair" class="sharedaddy sd-like-enabled sd-sharing-enabled">
<div class="sharedaddy sd-sharing-enabled" style="text-align: right;">&nbsp;</div>
</div>

د. محمد العدوي

عبد الله النديم

د. محمد العدوي